"فى عينيا"..تصالح مع الألم وبحث عن طرق للتواصل
"أنظر لي كي نحكي معك"
جملة تحمل الكثير من الألم، فمن أكثر الأشياء التى تثير غضب الإنسان هى تجاهل الآخرين له، لأن النظر فى عين محدثك هو من أهم وسائل التواصل، وعندما تشيح ببصرك عنه فهذا يعنى أنك تحاول تجاهله، مما يشعر الطرف الأخر وكأنه سراب لا يراه أحد أو أنه يتحدث لحائط دون مجيب، فماذا لو كان قائل هذه الجملة هو أب يشعر برفض ابنه له، يسعى للتواصل معه بالطرق المعتادة لممارسة الأبوة فى مجتمعاتنا العربية كشراء الهدايا والألعاب ولكن لا يجد فى المقابل سوى ردود فعل عنيفة من طفل لم يتخط عمره التسع سنوات، يعامله الآخرون على أنه مخبول، ولا يفهم الأب سبب حالته.
استخدم المخرج التونسي نجيب بلقاضي هذه الجملة للتعبير عن العلاقة المعقدة بين لطفي وابنه يوسف المصاب بالتوحد في فيلم "فى عينيا"، وعنوان الفيلم يعبر عن الألم الذى يشعر به لطفي وهو يحاول التقرب من ابنه بطريقته متجاهلاً عن عمد الطبيعة المختلفة لهذا الطفل، لرفضه الاعتراف بها وكأنها وصمة عار ستجعل منه شخصاً منبوذاً فى مجتمع لا يقبل الاختلاف. اقتبس المخرج نجيب بلقاضي فكرة الفيلم من كتاب "Echolilia" ومجموعة الصور الشهيرة التى التقطها المصور الأمريكي تيموثي أرشيبالد فى عام 2010 لابنه إليجا المصاب بالتوحد، واعتبرها مشروع عمل مشترك كان سبباً فى التقريب بينه وبين ابنه الذى لم يكن عمره وقتها قد تعدى الست سنوات، وساعدته على فهم عالمه والتفاعل معه، فكان يتركه على طبيعته ليفعل ما يريد ويلتقط له صوراً فى أوضاع مختلفة، وقال أرشيبالد فى أحد تصريحاته عن هذه الصور: " يتعلق الأمر كله بالانتباه لطفلك والاستماع إليه، وأن تكون على قدم المساواة معه وليس مجرد أب"، واهتم بلقاضي بالتركيز على هذه الفكرة فى الفيلم لأن العلاقات الإنسانية لها مفعول السحر في التقريب بين عالمين متباعدين فكل ما نحتاج إليه هو الاستماع للآخر ومحاولة فهمه حتى لو كان مختلفاً عنا.
القرار الأسهل بالنسبة للطفي كان التهرب من المسئولية وترك زوجته سارة وابنه لأكثر من سبع سنوات والبحث عن حياة جديدة فى مارسيليا مع زوجة أخرى، لأن المواجهة أصعب بكثير، خاصة فى ظل مجتمع لا يمتلك الوعى الكافي للتعامل مع مثل هذه الحالات، فعلى الرغم من ارتفاع نسبة الأطفال المصابين بالتوحد أو "Autism Spectrum Disorders" في العالم العربي إلا أن القليل منهم يتم تشخيص حالته بشكل صحيح والتعامل معها على هذا الأساس، بالإضافة إلى صعوبة العثور على مراكز متخصصة لتعليمهم بحيث يمكنهم التفاعل مع المجتمع بشكل طبيعي، وعندما تجبر الظروف لطفي على العودة بعد وقوع سارة فى غيبوبة، يضطر لمواجهة عقدته فهو مثل أى أب شرقى يتمنى أن يكون ابنه صورة عنه ينقل إليه خبراته الحياتية وطباعه، لكن مرض يوسف الخارج عن إرادته يعتبر الحاجز الرئيسي أمام تحقيق هذه الأمنية، فهو يرفض النظر فى وجه لطفي ويعيش فى عالمه الخاص مفرط الحركة فاقداً القدرة على الكلام، تصرفاته غير متوقعة، تتملكه نوبات غضب وعصبية مفاجئة، يرفض التغيير فى نمط الحياة أو فى المكان الذى يعيش فيه، تجذبه الأنوار الوامضة والملونة.
عندما يفشل لطفي فى التقرب من يوسف بالطرق المعتادة يبدأ في البحث بين صوره القديمة ويثير اهتمامه نظرة يوسف لوسيم صديق الأم لأنه لم يحظ بمثلها ولا مرة واحدة ومن هنا يبدأ فى تطوير علاقته مع الابن مستخدماً كاميرا الفيديو التى تمكنه من فهمه بطريقة أفضل وتبني جسراً من الثقة بينه وبين يوسف ويساعده على تعلم بعض الأشياء البسيطة التي لم تتمكن مراكز التأهيل من تحقيقها معه. كما ينتقد الفكر الذكوري الذى زرعته جدة يوسف في ابنها لطفى، فهي من دفعته للهرب من زوجته وابنه المريض وكأن مرضه هو ذنب الزوجة وعليها أن تتحمله وحدها، وهي نفسها التى تستدعي لطفي لينتزع يوسف من خالته التي ترعاه بعد طلبها لحضانته رسمياً في المحكمة، وهو ما اعتبرته الجدة إهانة لرجال العائلة! لكنها فى الوقت نفسه ترفض رعاية يوسف بنفسها وتطالب لطفي بإيداعه في مصحة نفسية أو مدرسة خاصة، ويبحث بلقاضي في فيلمه من خلال كل تلك التعقيدات المتشابكة عن وسيلة للتصالح مع الخوف والألم والبحث عن طرق للتفاهم بدلاً من قسوة التجاهل.
إضافة تعليق جديد