"مفك".. تفكيك الواقع بالأسئلة
"مفكر حالك بطل؟ اللي طخيته كان عربي، ماكنش اسرائيلي".
البطولة معضلة "مفك" الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج الفلسطيني بسام جرباوي. يشد تحتها خطًا ثم يفكك الواقعي والمتصور حولها طارحًا من خلال عالم شخصيته الرئيسية زياد، الذي لعب دوره الممثل زياد بكري، أسئلة شائكة في قالب لا يخلو من سخرية مريرة.
فتية من المخيم في سيارة مسروقة يُقتل أحدهم بنيران مستوطن، فينتقمون بقتل مستوطن ويكتشفون لاحقًا أنه فلسطيني وأنه لم يمت. يقضي زياد 15 عامًا في سجون الاحتلال لكنه يخرج بطلًا حسب الرواية الشعبية التي تحب وصفه بالأسير المحرر. فهل يمكنك في بلد محتل أن تحكم بميزان أخلاقي بين ما هو جنائي وما هو فعل مقاومة؟ ومتى يكون فعل التبرير بذاته جريمة؟ "ولا يهمك. إللي فات مات" يقولها المجني عليه صافحًا عن "الأسير المحرر".
ورغم أن زياد لا يغفر لنفسه ادعاء الآخرين عنه بطولة يراها زائفة فهو يتماهي مع رواية البطل، فيُحمل على الأعناق، وينال معاش الأسير، ويخاطِب الكاميرا بشعارات محفوظة "أنا زياد، أسير محرر، نطالب بتحرير الأسرى، ولن يغمض لنا جفن حتى تحرير فلسطين". ولا يحاول بسام جرباوي التشكيك في استحقاق الأسرى لكنه يسائل ضبابية المفاهيم وانتهازية تحول الأسير لمادة متاجرة إعلامية وشعار للمسيرات. "هاي الأبطال مرميين ما حدا داري فيهم" يقولها أسير محرر آخر انتهى به الحال بائعًا جوالاً للأحذية تلاحقه الشرطة. فعندما يرضى زياد بصفة البطولة التي لا يهضمها يفاجأ بالمآل الحقيقي للأبطال.
وتتسع الأسئلة في "مفك" لصكوك الانتماء، وما إذا كان يقتصر استحقاقها على الذين يعيشون داخل سجن الأرض المحتلة أم أنه يشمل أولئك الذين اضطروا للشتات، إذ يُصر زياد على نزع صك الانتماء عن مخرجة فلسطينية أمريكية تصنع فيلمًا عن حكايات الفلسطينيين ومن بينهم زياد. ويفسر دوافعها الحقيقية على أنها محاولة للتخلص من الذنب "ذنب إنك مش عن جد بتعاني"، ويواجهها بحكمه. وما نوع المعاناة المرتبطة باستحقاق الانتماء؟ "شو اللي بيخليك الشخص اللي بيقرر كيف أنا باحس تجاه وطني" تسأل المخرجة بلا جواب.
بيد أن الفيلم يسائل صورة الفلسطيني في الإعلام والسينما؛ هل حقًا تصنع المخرجة فيلمًا ليدرك العالم "مين إحنا جد" حسب قولها، وما الذي تضيفه تلك المعرفة على واقعيتها لمن يعيشون تحت الاحتلال؟ "ما بيحكولنا إشي إحنا أصلًا مش عارفينه، بس بيخلوا الناس التانيين تشفق علينا"، هكذا تقول سلمى جارة البطل في أحد المشاهد.
ويسائل الفيلم أساليب المقاومة في علاقتها بالزمن من خلال شخصية سند، الفتى المهووس بالفن والمسكون برغبة جامحة لوجود رؤيا بديلة عن تلك التي برأيه تعيد إنتاج المأساة، فهو يلون جدران المخيم حتى يمنحها "نظرة جديدة، ومزاج إيجابي" ويندهش من المعترضين الذين يعتقدون أن تحول المخيم لمكان جميل قد يصير به ليصبح مكاناً أبدياً، ويطرح سؤالًا عن جدوى أساليب المقاومة التقليدية "وأنا صغير كنت أطبش بعدين بطلت لأنه مش هيك راح أحرر فلسطين"، لكن أين يذهب الوعي الفردي وسط عقلية جماعية صلبة؟ "بس الشباب بيطبشوا وأنا شو؟ أقعد أرسم؟ عالأقل بروح بساعدهم"، وينضم سند للتيار الجمعي على طريقته لكنه يواجه نفس المصير. فهل هناك فرصة لرؤى جديدة أم أن كل الطرق تؤدي إلى نفس النتيجة؟ وهل تحول زياد إلى بطل حقيقي في المشهد الأخير منفردًا بمستوطن؟
يسدل الستار على معركة مرتقبة وغير متكافئة لكنه لا يُسدل على إجابات لعشرات الأسئلة التي يطرحها بسام جرباوي في أقل من ساعتين في فيلم يفكك الواقع دون أن يعيد بناءه، لكنه يدق جرس إنذار لضرورة إعادة النظر في عناصره.
إضافة تعليق جديد