طرس..رحلة الصعود إلى اللامرئي
يبدو لي أن الاختيارات الفنية لمخرج الفيلم غسان حلواني تبدأ بكلمة عربية فصحى غير متداولة ومنسية وهي "طرس"
والتي تعني في المعجم "محو"، بحيث يكون الفيلم كله رحلة بحث عن ذلك الممحو، المتواطَأ على نسيانه، المندثر اللامرئي تحت ركام صراعات قديمة/حالية وملصقات على جدران المدينة "بيروت"، ملف المخطوفين والمفقودين والمختفين قسرياً في لبنان منذ زمن الاقتتال الطائفي وحتى الآن.
نرى بوستر المفقودين والمختفين قسرياً وننتظر فيلم سينمائياً يثير المشاعر والتضامن ويجعلنا نجهش بالبكاء على صور وذكريات وحكايات ومعاناة الأهالي في البحث عن ذويهم، لكن هذا بالضبط هو الطريق السهل الذي لم يتخذه المخرج ليصنع فيلمه.
أزعم أن المخرج اختار الطريق الأصعب في الاتجاه المعاكس محاولاً أن يجد لنفسه موقعاً مستقلاً ونقدياً لصناعة فيلم مقالي بحثي ضد طمس ذاكرة مسارح جرائم القتل والخطف الذى تقوم به الدولة اللبنانية ونظامها الطائفي وكذلك ضد البوستر الذي صنعته لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين وبات صورة كأي صورة، مجرد صورة جماعية أيقونية تدعو للتعاطف العابر والإحساس بالذنب الطارئ وتنفي تعقد المشهد وتركيبه.
يمزج الفيلم بين صور ثابتة ولقطات طويلة نسبياً تسعى إلى تجاوز عرض الإثارة والعنف بوعي لا يريد إعادة انتهاك الضحايا مرة أخرى بشكل يدعو إلى التركيز والتفكير والتأمل، وبين تعليقات داخلية مكتوبة تجمع بين معلومات موثقة وخلاصة تأملات صانع الفيلم نفسه، كاقتراح يعطي سياقاً ويضفي رؤية أعمق لتلك الصور دون أن يلغي فعلها وأثرها.
بعض تلك اللقطات، تظهر في الفيلم من منظور رأسي لغرفة تبدو كمعمل للبحث الجنائي يشمل أرشيف وثائق لأخبار من جرائد مختلفة عن اكتشاف مقابر جماعية منذ أيام الحرب الأهلية، وفيديو يوثق الكشف عن جثث في أكياس وعظام في أحد مواقع تلك المقابر الجماعية أوائل التسعينات من القرن الماضي، لكن الدولة تكذّب وجودها وتدعي أنها عظام حيوانات، ومن خلال عدسة مكبرة نرى وجوه شخصيات بوستر المفقودين، الأيقونة التي يسعى الفيلم إلى تفكيكها.
في البعض الأخر، نرى لقطات مقربة تأملية، صور يد تعمل بدأب وتأني شديدين كعالم آثار ينقب صعوداً إلى كنز الحقيقة، تنزع بمساعدة الأدوات طبقات من الملصقات على الجدران حتى تصل إلى صور وجوه المفقودين، كما نرى وجه المخرج وهو يطابقها على الصور التي معه على الجهاز اللوحي، صورة تلو الأخرى لكل وجه شخصية ومكان اختفاء وحياة متنوعة قبل الاختفاء، وحياة بعدية يتخيلها الفيلم كمشاهِد من الرسوم المتحركة.
نرى بيروت في الفيلم على خريطة جوجل كمدينة تحولات محاطة بسياج من مواقع المقابر الجماعية، تتراكم عليها طبقات من صراعات الحرب الطائفية والاقتصادية حتى نصل إلى طبقة الاستثمارات العقارية بحيث يكون وجه المدينة قد تغير بالكامل.
إضافة تعليق جديد