"عايم في مية بطيخ"
البطيخ، تلك الفاكهة الصيفية المبهجة والمنعشة، في المقولة الشعبية تستخدم لوصف كل ماهو فوضوي، عبثي، لايحكمه المنطق أو العقل. اختارت المخرجة التونسية كوثر بن هنية "البطيخ" كبطل أساسي من أبطال فيلمها "بطيخ الشيخ".
تدور أحداث الفيلم حول شيخ يحظى باحترام وتقدير الجميع، إلا أنه يتعرض للخديعة من مساعده الذي يحاول إزاحته وأخذ مكانه، ويجد الشيخ نفسه في موقف لايحسد عليه بعد أن أدى صلاة الجنازة على سيدة لايعرفها، وتتوالى عليه المفاجآت.
لم تجد كوثر أفضل من "البطيخ" ليقترن بفكرة الفيلم التي تدور حول البشر والسلطة وماهية الصراع عليها، ولاسيما السلطة الدينية، بكل ماتمثله وتحتله من مكانة في عالمنا.
ذلك الصراع الذي لايخضع لأي عرف أوبديهة، تحكمه الذاتية والألعاب والمؤمرات المتكررة، والمضحكة في أغلب الأحيان.
من خلال فيلمها القصير، ذكي الإيقاع، كوميدي النزعة، خفيف الوقع، ورائع التمثيل، تقدم لنا كوثر حكاية قد تبدو عادية وعابرة، عن التنافس على إمامة الجامع واعتلاء منبر الخطابة، فإمام الجامع أو زاوية الصلاة، يعدّ كالزعيم الشعبي، كلمته مسموعة ومؤثرة، ويستطيع أن يتحكم في سمعة البشر ونظرة الناس لهم ومصدر رزقهم، باتهامات بسيطة كاتهامهم بالكفر أو الزندقة، تطلق ببساطة لتروع الآذان وتسيطر على العقول، فإمام الجامع مصدر ثقة ويعد قدوة بلانقاش، هكذا هو الحال.
الجامع الصغير منظومة بشرية مصغرة ومتكاملة، فيها الأفراد والسلطة بعلاقتهم المركبة، وفيها أيضاً السرقة والنصب وعدم الثقة. فهل يمكن اعتبارك مُصلّي ومن روّاد الجامع إن لم يسرق حذاءك مرّة في العمر!
ومن خلال سردية الأحداث، نرى من الأنماط الاجتماعية والإنسانية مايثير التأمل والضحك؛ النموذج المعتاد للمحتال التقليدي المتدين المزيف، قدرة الانسان-مهما كانت مبادئه وقيمه- على التناقض معها ومع نفسه، والتغاضي عن الكثير من الحقائق والتحايل عليها من أجل الحفاظ على سمعته وبالتالي منصبه، حتى لو أدى ذلك إلي عدم راحته أو إلي شعوره بالذنب، فالكذب يكون مباحاً، والتلاعب يصبح ضرورة، وبكل تلقائية تتبدل القناعات وتتلون من أجل الحفاظ على ماهو أهم وأحق، وتخلق قناعات جديدة، محكمة ولها مايؤيدها من أسباب مستهلكة: الحفاظ على المصلحة العامة، الاستقرار العام، عدم إثارة الغضب والبلبلة بلا داعي، وكل ما إلى ذلك من حجج تعمل كغطاء ممتاز لأنانية الفرد ومصلحتة الخاصة.
لم تعمد كوثر بتقديم أي دروس مستفادة أو عظة واضحة، ولا تجاوب على أي أسئلة. بل تركت ذلك للمشاهد وبكل ذكاء، ليحدد بنفسه، وفقا لرؤيته وإحساسه، مع أي بطل يتعاطف؟ ليعيش رحلة من المشاعر المتباينة خلال 23 دقيقة هي مدة عرض الفيلم، وحتى مع نهايته. رحلة من الدهشة، الغضب، القلق، التعاطف، ثم الحيرة، ليخرج من الفيلم وهو مازال يفكر ولا يستطيع أن يقرر.
هل نهاية الفيلم عادلة؟ هل نال كل منهم ما نعتقد أنه يستحقه؟
هذا ماتحتاج لأن تشاهد الفيلم حتى تقرره.
إضافة تعليق جديد