الانتظار

هكذا تقول النبوءة مع بداية الفيلم اللبناني "الرجوع"، بعد انتظار ثلاثين عاماً، تبشّر قارئة الكف الزوجة بعودة زوجها الغائب منذ الحرب الأهلية اللبنانية ١٩٨٢. لنبدأ ونعيش معها مرحلة الانتظار.

"الانتظار مؤلم..النسيان مؤلم أيضاً، ولكن معرفة أيهما تفعل هو أسوأ أنواع المعاناة"

بعد فيلمه الأول المثير "امرأة العنب"، يقدم لنا المخرج اللبناني مايك مالاجيليان في جو مشحون شديد التوتر ومتسارع الإيقاع، فيلمه الثاني؛ مجسداً ببراعة محنة الانتظار وألمه، موظفاً زوايا تصويره، والإضاءة ومؤثرات الصوت القوية والحادة، لتعمل على توحد المشاهد مع البطلة، يشعر بماتشعر، يخاف مما تخاف، و يترقب وصول الزوج المنتظر.

"اختفى سبعة عشر ألاف شخص  في ظروف غامضة خلال الحرب الأهلية اللبنانية، ومازالت أسرهم تنتظر عودتهم إلي الآن"

تشير دراسات علم النفس؛ أن الانتظار يتسبب في العديد من المشاعر السلبية، أبسطها الملل والاحباط والقلق، بل قد يصل هذا التأثير إلي الآلام الجسدية المحسوسة، وهي مشاعر ذاتية شديدة الخصوصية، صعبة الوصف والشرح. ومن هنا تأتي حساسية الفيلم وأهميته في نقلها بشكل مكثف وصادق طيلة مدة عشر دقائق هي مدة عرضه.

ومن خلال ما يمكن اعتباره psycho thriller ، نجح المخرج في شد انتباه المشاهد والحفاظ عليه جالساً على حافة مقعده منذ اللحظات الأولي وحتي النهاية، بتفاصيل غاية في الذكاء، قد تغفلها العين العادية ولا تعرف دورها في تكوين منظومة متكاملة من العوامل المساعدة، تتآمر جميعها لتعذيب الأعصاب واستهلاك القوة. بداية الفيلم مع كادر مائل موتر، يصاحبه رنة التليفون الكلاسيكي القديم المزعجة، ثم تصاحبنا عبر الفيلم المشاهد المشحونة بمشاعر القلق وهلاك الأعصاب، مشاهد دقات الساعة ثم تكسيرها، انصهار الشموع، أصوات الشارع أو همهمات ما وراء الحوائط. في سردية واقعية وتفنيد لمشاعر الانتظار المختلطة بالأمل، الخوف والرهبة ثم المواجهة والقبول.

قامت بالبطولة الممثلة اللبنانية المبتدئة ليزا دبس، في اختيار جريء منها ومن المخرج الشجاع، نظراً لصعوبة الدور وثقله وتفاصيله الدقيقة.

في فيلم انحاز مخرجه لخيار الصمت الصعب، يسلط به الضوء على جانب مختلف ومهمل من أهوال الحرب، وهو مأساة الاختفاء. فالمجهول مرعب ومرهق، لكن الأشد رعباً وإرهاقاً منه هو التمسك بالأمل واختيار الانتظار بكل ما يعنيه ويسببه من شلل حياتي وشعوري قاسي، كبديل عن اختيار تقبل الواقع والاستمرار في الحياة. وكما نري مع بطلة الفيلم، مع الانتظار تصبح أبسط المهام اليومية العادية البسيطة، عبئاً ثقيلاً ومجهوداً ضخماً، يستلزم طاقة نفسية هائلة وقدرة على التحمل والتعامل بصبر. وعلى عكس المتوقع، قد تكون البشارة بالعودة حملاً جديداً يحمله المنتظِر، يطرح أسئلة جديدة، ومخاوف وشكوك أكثر تعقيداً.

وتظل الأسئلة الأبدية مطروحة، هل الانتظار والتمسك بالأمل في عودة الغائب هو البديل السهل؟ أم أنه إهدار للعمر والحياة. هل في الاستسلام ضعف أم أنه في بعض الأحيان يكون قوة وضرورة ملحة يفرضها الواقع.

 هل الغائب حقاً يعود؟ وحين يعود، هل يعود كما عرفناه وانتظرناه في مخيلتنا، آم تعود نسخة باهتة له تفتقد الروح؟

    إضافة تعليق جديد

    نص عادي

    • لا يسمح بوسوم HTML.
    • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
    • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.