يارا.. العابرون على أرض الواقع في عالم خيالي
في ذاكرة كل منا حكاية يحفظها من إرث الأهل والأجداد، حكاية هادئة تليق بهدهدات قبل النوم، تبدأ الحكاية بـ"كان ياما كان" وشاب وفتاة في أرض بعيدة يغمرهم الحب، ثم فجأة تعصف بهم الأحوال ويُكتب عليهما الفراق؛
هناك من يترك النهاية حزينة، وهناك من ينتصر للحب فيجمع بين الحبيبين مرة أخرى، نعرف جيدًا هذه الحكايات التي تختزنها ذاكرتنا في مقتطفات متتالية لسرد الأحداث، لكنها حين تتجسد على شاشة السينما نجد أن هناك الكثير من الصمت والسكون لم ننصت إليه ولم تخبرنا به الحكاية.
الهروب إلى الواقع
"يارا" هو الفيلم الروائي الخامس للمخرج العراقي عباس فاضل، لكن هذا التصنيف النوعي للفيلم يضعنا أمام فرضية مسبقة وسؤال شائك، هل هذا الفيلم روائي حقًا؟ أم أنه يلعب في مساحة يختلط فيها الواقع بالخيال؟
ما يقدمه لنا "يارا" هو حكاية بسيطة تدور أحداثها على هامش الطبيعة في وادي قديشا في منطقة بشرِّي اللبنانية، واختار عباس فاضل أن نستمع إلى الفيلم قبل أن نراه، وفي الثواني الأولى من الفيلم تزامنًا مع العناوين الافتتاحية، نستمع إلى صوت الطبيعة، العصافير وحفيف الأشجار والهواء، ثم ننتقل إلى الصورة التي نرى فيها الوادي، البطل الرئيس في أحداث الفيلم.
تتنقل الكاميرا بين جنبات الوادي لتكشف لنا عن سحر الطبيعة واتساعها، وعلى الهامش تعيش فتاة شابة وجدتها العجوز سويًا على ارتفاع قمة الوادي، ثم يظهر عابر طريق ليقتحم هذه الحياة الهادئة للفتاة لتنشأ قصة الحب التي تشبه الحلم.
هنا يسلك الفيلم دربًا غير ممهد مسبقًا في طريقة السرد تتماس فيه عناصر الفيلم الروائي بالتسجيلي، فالقصة التي يصورها لنا الفيلم درامية يشوبها سمات تسجيلية يمكننا تتبعها في الحوار العفوي بين الشخصيات، فبدت الجمل الحوارية كأنها وليدة المَشاهِد ولم يُعدّ لها مسبقًا، ومال التمثيل إلى الواقعية أكثر من ميله لأن يكون أداءً درامياً لفيلم روائي، وقد ساهمت الصورة في تأكيد حالة التسجيلية عبر اللقطات الطويلة التي لا تصور لنا أحداثاً درامية بقدر ما تتأمل الطبيعة والصمت الطويل وتنقلها لنا خلسة كأنها تقف بنا على الحافة بين الحقيقة والخيال، الدراما والواقع، وهو ما يتركنا متسائلين عما إذا كان كل هذا هو عالم واقعي أم أنه محض تمثيل درامي؟ كل ما ندركه أن هناك حياة مختبئة بالأعلى وعزلة تامة عن الحياة الصاخبة في المدينة، وهذا الوادي البعيد ينتمي إلى الطبيعة التي يمكن أن تكون في أي بقعة أخرى على الأرض.
يحلل الناقد "بيلا بالاش" الأفلام الطليعية التي تعرض لنا مشاهد مجردة من الطبيعة بأنها لا تعبر عن شيء أبعد من شكلها المجرد ولا تنقل لنا أي حقائق أو حتى واقع، ومن هذه الفرضية يمكننا الاشتباك مع فيلم "يارا" لنسأل، هل صور لنا المخرج الطبيعة والحياة على سفح الوادي البعيد؟ أم أنه تركنا فقط أمام صور طبيعية متحركة تتخللها قصة حب قصيرة وهادئة ثم فجأة ينتهي كل شيء؟ يعود التساؤل مرة أخرى مع نهاية الفيلم ويترك لنا التفكير من جديد في ماهية السينما وفي اللحظة الساحرة التي نفتش عنها عند كل مشاهدة سينمائية جديدة، ما هي؟ وكيف ندركها؟ هل ما نبحث عنه هو الحكاية؟ أم الصورة؟ أم الصوت؟ أم الاكتفاء بفعل التلصص على شخصيات لا نعرفها؟
في واحد من مشاهد الفيلم نراقب الجدة وهي تحمل المسبحة في كفها وتصلي لربها في صمت شاخصة ببصرها بعيدًا، هي لا تفتش عن شيء، ولا تنتظر شيئاً، بل نحن من ينتظر ويبحث مع كل مشهد عن الجديد الذي سيحدث، كأن يقرر الواحد منا أن يراقب الحياة بحثًا عن ضالته، يهيم على وجهه وينظر إلى الطبيعة طويلاً كأنه في صلاة سرية، لكن لا شيء يحدث له، لا معجزات تهبط عليه ولا ملائكة تحيطه بأجنحتها، سنبقى وحيدين تمامًا نواجه الصمت والحياة على اتساعها، ونسأل، هل الحياة هي ما نشاهده على شاشة السينما؟ أم أنها الحياة التي تحيط بنا ولأننا اعتدناها توقفنا عن النظر إليها؟
إضافة تعليق جديد