عمر قتلاتو الرجلة
يعرف اليوم كثير من محبي السينما، المخرج الجزائري مرزاق علواش، صاحب الجوائز العديدة من محافل سينمائية معروفة عربياً مثل قرطاج، ودبي، وأخرى عالمية مثل كان وبرلين وموسكو.
بورتريه لشباب تائه: محمد طارق
هذه المعرفة التي بنيت بشكل ما على أفلامه الحديثة، مثل مدام كوراج، وريح رباني، والسطوح، لكن مع إنتاجه المتتالي، واستكماله لمشروعه السينمائي، قد يغفل البعض عن معرفة بداية تجربته، بفيلم "عمر قتلاتو الرجلة"، والذي يقدم بأسلوب يميل للفيلم التسجيلي، قصة يوم في حياة شاب جزائري يُدعى عمر، وقتلته الرجلة تعني قتلته الذكورة والرجولة.
يبدأ الفيلم بجورب متهتك يرتديه عمر، ويرتدي من فوقه حذاءً جلدياً يشبه أحذية رعاة البقر، لنصعد مع الكاميرا بعدها إلى وجه عمر، الذي ينظر مباشرةً إلى الكاميرا، كاسراً ما بينه وبين الجمهور من حواجز، وبادئًا في روي كيفية سير حياته، وأين يعيش، إلى آخره من بقية التفاصيل. عمر مفتون بعيشة لا يعيشها أهله المتكدسين تحت سطح نفس البيت، ويخلق لنفسه عالمًا كذلك الذي يراه في الأفلام، فهو محب للموسيقى، ويسجلها من دار سينما الأوليمب والمسرح، على كاسيت صغير يحوزه ضمن عالمه الخاص.
بجانب هذا العرض المستمر لحياة عمر، والمصاحبة بحكي راوٍ هو نفسه بطل الفيلم، تتاح لنا الفرصة في تأمل حال الشباب الجزائري في سبعينيات القرن الماضي، هذه جزائر ما بعد الاستقلال، لكن يبدو أن مشاكل هذا البلد لم تنتهي برحيل المُحتل. يعمل عمر، في إدارة الاحتيال، والمعنية باسترجاع المسروقات، ويرافقه أصدقاؤه في العمل أينما ذهب تقريبًا. فخارج إطار مكتبه الروتيني التقليدي، يخرج عمر للذهاب إلى السينما، التي تكتظ بالرجال، الذين ينتظرون ظهور الفيلم الهندي، من أجل لقطة تسقط سهوًا من يد مشغل السينما، تظهر فيها فتاة جميلة، يستعيضون بها عن فشلهم العاطفي نوعًا ما، وعندما تفسد اللقطة، يثور الجمهور غاضبًا.
في بقية الفيلم، تتضح الرؤية أكثر فأكثر، عن وضع جيل مأزوم، يحاول أن يوجِد لنفسه مكانًا وقيمة من خلال الرجلة، فعمر يواظب على حضور مباريات كرة القدم والمسرح، بل ويشتري بطاقات الحظ أيضًا، إنه زاهٍ بنفسه، وفي نفس الوقت، يحمل كمًا هائلًا من الإحباط من خلال الفرق بين الصورة التي يتخيلها عن نفسه، والمعيشة التي يعيشها حقًا. خلف هذا الوجه المبتسم الواثق من نفسه، يقبع شاب هش، يعاني الوحدة، ويبحث عن الحب بأسلوب ساذج جدًا.
يتميز الفيلم عامة بأسلوبه، الذي يتعرض بشكل ساخر لكل هذه القضايا، الأمر الذي كان له بالغ الأثر في انتشار الفيلم عالميًا ومحليًا، حيث أنه فيلم كوميديا سوداء، يقنعك مخرجه بمشاهدة مأساة طولها تسعين دقيقة، بينما يتخفى وراء ستار الكوميديا، من خلال شكل سينمائي لا يجعلك تشعر بأن عمر هو حقًا بطل فيلم، وأن كل ما تشاهده هو شريط سجله البطل في محاولة لكي يجعل من نفسه بطل أحد تلك الأفلام التي يشاهدها في سينما الأوليمب، حيث تُصنع الأساطير!
قتلاتو الرجلة: أحمد رفعت
ما أرى أنه يظل حيًا في "عمر قتلاتو الرجلة" رغم مرور كل تلك الأعوام هو شعور الملل المؤرق لدى عمر، ف"الليل طويل" على حد قوله والبيت غير مريح وعليه أن يتململ في مسرحيتين طويلتين ليستمع إلى مطربه المفضل، المزيج من عدم الاكتفاء بالمتاح ثقافيًا وجنسيًا وشعوريًا، وإذا كنت ممن يشاطرونني ذلك الملل من المتاح حولنا فعمَر يحمل ما أظنه من أكثر الأداءات التمثيلية في السينما العربية إثارة للاهتمام لتلك الحالة من الضجر اليومي وفقره لمن هم/ن في عمرنا .
عمر شاب، إنه في هذا العمر الذي يملي عليه النظر إلى المستقبل والتفاوض عليه. إنه ضمن الفئة التي يطلق عليها "شباب" وهي الفئة محور اهتمام السلطة السياسية لأنها الفئة الأكثر شغبًا ورفضًا للوضع القائم.
في سبعينات القرن العشرين في الجزائر وبعد أكثر من عشر سنوات على حرب التحرير والحصول على الاستقلال، يبدأ جيل جديد في محاولة النظر إلى الحاضر الجزائري ما بعد القضية الكبرى -الاستقلال من فرنسا- والتي حصلت على النصيب الأكبر من التناول السينمائي في ذاك الوقت، وأقصد الأفلام التي تناولت مقاومة الفرنسيين مثل ريح الأوراس للأخضر حمينة والأفيون والعصا لأحمد راشد. واعتمدت أغلب تلك الأفلام على سرد تقليدي في ظل قطاع سينمائي سيطرت عليه الدولة بشكل كبير من خلال الديوان الوطني للتجارة والصناعة السينمائية.
عمر مزهو برجولته، وهو معروف لأصدقائه بعمر قتلاتو بمعنى من قتلته رجولته كما يشرح لنا. وذلك على العموم مصدر فخر له فالرجولة شيء يعتز به، وعلى مدار الفيلم نتعرف ببطء على هشاشة تلك الرجولة واضطرابها من تناقضاتها، من التوتر الناجم عن لمسةٍ مع امرأةٍ بالصدفة في المواصلات، إلى العلاقة الودية والعاطفية والتي بها الكثير من الحميمية مع أصدقائه الذكور، وصولًا إلى الخوف من الحب.
في فيلم مرزاق علواش الطويل الأول، يسترد الشاب الجزائري سلطة السرد، القدرة على وصف وشرح حياته ومحيطه الجغرافي والاجتماعي بكلماته الخاصة ومباشرة إلى من يشاهد الفيلم من خلال الصوت المصاحب. يكلمنا عن حياته اليومية في المنزل وخارجه، عن الحي الذي يعيش فيه وعن موقعه في المدينة وتاريخه خلال حرب التحرير والتي لاتزال حوائط البيوت تتذكرها في هيئة آثار الرصاص، وكذلك عن الترفيه الثقافي في المدينة من موسيقى وسينما ومسرح ورياضة، وهو ما خصص له علواش مشاهد طويلة، نرى من خلالها طقس الذهاب إلى السينما والمسرح والمباريات.
على الجانب الآخر نجد بذور الواقعية السبعينية حاضرة بقوة، وأزعم أن الفيلم يُحضِر من الذاكرة مشاهد بعينها من السبعينيات وبداية الثمانينيات المصرية إلى من هم/ن على اتصال بالسينما المصرية، مثل "الاختيار" (يوسف شاهين، 1970) و"عودة الابن الضال" (يوسف شاهين، 1976) و"أفواه وأرانب" (هنري بركات، 1977) و"سواق الأتوبيس" (عاطف الطيب، 1982) وإرهاصات الواقعية الجديدة، وهي الجماليات التي اتجه إليها مرزاق علواش في أفلامه بعد ذلك، ربما باستثناء فيلمه اللاحق على "عمر قتلاتو الرجلة" وهو "مغامرات بطل" 1979. ومثل تلك الأفلام أيضًا، نجد العديد من المشاهد "التوثيقية" التي تقترب إلى السينما الوثائقية من حيث أدوات التمثيل والسرد المستخدمة فيها.
من خلال سرده الذاتي المباشر لحياته يرفض عمر تماهينا معه، وفي تجربتي مع الفيلم نجد أنفسنا مع أفكار ومشاعر أكثر إرباكًا من التماهي المريح. وبحديث عمر معنا ورؤيتنا لحياته من منظوره، يضطرب التصنيف للفيلم بين الروائي والوثائقي بشكل يحافظ على التوتر بين الواقع وتمثلاته، وبذلك يفتح عمر في رأيي مجاﻷ أمامنا لتأمل العلاقة بين واقعنا وبين قدرتنا على صياغته.
إضافة تعليق جديد