"تأتون من بعيد" عن الدائرة المغلقة للتاريخ
"المدن المدمَّرة بفعل القنابل تشبه بعضها بعضًا. هذه المدينة قد تكون مدريد تحت وطأة قنابل فرانكو 1936" يقول الصوت في الخلفية، بينما المدينة على الشاشة هي بغداد 2003، وقد تكون بيروت، أو غزة أو دمشق أو طرابلس.
"تأتون من بعيد" يقول الصوت "فما الذي تعنيه كل تلك المسافات لدمائكم التي تغني بلا حدود؟".
باللقطات الأرشيفية واللحظات الحميمة المرتبكة لشخصيات الفيلم الحاضرين والغائبين تنسج أمل رمسيس في فيلمها التسجيلي "تأتون من بعيد" لوحة من الأسئلة الوجودية عن التاريخ والحاضر. هل البشر مخيرون أم مسيرون تحت وطأة الظلم الجماعي؟ وهل هناك حقًا خيارات للنجاة؟
خلال ساعة ونصف مدة الفيلم ستدرك أنك متورّط في تاريخ فادح برعت أمل رمسيس في رسم تفاصيله من المشهد الأول. يفتتح الفيلم بفيديو لغارات جوية على بغداد 2003 حيث يتحدث الصوت الذي لا ترى صاحبه إلى كارلوس الإسباني المتطوع دفاعًا عن العراقيين ردًا لجميل أجدادهم العرب الذين دافعوا عن أرضه يومًا. يعلن الفيلم من الدقيقة الأولى أنه ليس مجرد سيرة ذاتية، ولا سردية تاريخية، وإنما وليمة عامرة بالتساؤلات والجدل.
الفيلم في جانب منه هو جزء من سيرة الصحفي الفلسطيني الشيوعي نجاتي صدقي الذي غادر فلسطين هربًا من سجون الاحتلال البريطاني منتصف الثلاثينيات متطوعًا ضد الطغيان الفاشي في إسبانيا فرانكو. سردية سينمائية لمصير صدقي وعائلته بين القدس ومدريد وموسكو وبيروت وأثينا، من الاحتلال الإنجليزي إلى الحرب الأهلية الإسبانية إلى الاحتلال الإسرائيلي ثم الحرب الأهلية اللبنانية مرورًا بمنافي اختيارية وإجبارية.
لكن كارلوس لا ينتمي لعائلة صدقي. كما أن بغداد لم تكن جزء من حكاية العائلة التي تفرق أفرادها ليلتئم شملهم دون أن تلتئم جراح الذكريات العصية على النسيان، تؤكدها دموع دولية في عقدها السبعين عندما تتذكر اللحظة البعيدة التي تركتها فيها والدتها على باب ملجأ روسي ثم اختفت. كارلوس هو الحاضر الذي يعيد من خلاله التاريخ نفسه، ونحن لا نعرف مصيره، لكننا نعرف -دون أن نعرف- عندما نستمع إلى نشيد الأممية الذي كان يتغنى به المتطوعون العرب ضد فرانكو بينما تطالعنا الشاشة بمهزلة عالم الاستهلاك على الأرض نفسها، مدريد، حيث تفاحة الآبل تبتلع الجميع. فتراودك فكرة؛ هل وقفت أم دولية زوجة نجاتي صدقي -التي تركت ابنتها للتو في ملجأ روسي لتلتحق بالمتطوعين في مدريد- في موضع واحد من طوابير الشراء تلك عندما واجهت ميليشيات فرانكو قائلة "أنا متطوعة عربية، جئت لأدافع عن الحرية في مدريد، وعن دمشق في وادي الحجارة، وعن القدس في قرطبة، وعن بغداد في طليطلة، وعن القاهرة في قادش، وعن تطوان في برجوس". ثم هل انهزم فرانكو حقًا في آخر المطاف؟
يغرقك الفيلم في دائرة التاريخ/الحاضر المغلقة حيث تصبح جدوى الدوران واللهاث محل تساؤل، ويعيد الفيلم في أحد جوانبه الاعتبار للتاريخ المتجاهَل للمناضلين العرب الذين وقفوا إلى جانب إخوانهم الأسبان من قبل، فيتجدد إيمانك بدائرة الدعم الإنساني المغلقة بدورها على الأمل في الشعوب.
ويطرح الفيلم تساؤلات مفتوحة عن الهوية والانتماء. فهند نجاتي صدقي التي انتهى بها الحال في أثينا لا زالت تشعر بالغيرة كلما قال أحدهم "أنا رايح لضيعتي" وتتساءل "طيب ليش أنا ما بقدر أقول أنا رايحة لضيعتي. لبلدي؟". بيد أن الغربة بالنسبة لشقيقها سعيد الذي عاش معظم حياته في أمريكا اللاتينية "صارت الشيء الطبيعي.الانتماء أصبح العكس". بينما تعتبر شقيقتهم الكبرى دولية التي قضت جل حياتها في موسكو أن "البلد الأم مرتبطة بالميلاد. وبلدي الأم هي فلسطين". ومجددًا تجد نفسك مسكونًا باللحظة الراهنة حيث طوابير لا تنتهي من المهاجرين في بقاع الأرض لأجيال وأجيال، وجدلية العلاقة بالوطن الأم.
إضافة تعليق جديد