الكل يعرف عن الأسماك السكندرية
عن أي اضطهاد ثقافي يتحدث «ميكروفون»؟ على خلفية ثورة يناير ٢٠١١ وبالتزامن معها عرض فيلم «ميكروفون»، وشكل هذا عاملا حاسما في احتفاء وليس فقط تعاطف النقاد والمهرجانات والمعلقين والثوريين، بل واعتبره الكثيرون نبوءة فنية.
نشرت نسخة أولى من هذا المقال في معازف ونشرت ترجمة بالإنجليزية في مدى مصر، في إطار تعاون مع ترسوإذ أن الفيلم يرصد بلا التباس حالة التململ في ٢٠١٠ بين الشباب الممنوعين من التعبير عن أنفسهم وممارسة حياتهم وليس فقط من الحراك والتطور—يفترض أن أحد المشاهد تحية إلى خالد سعيد، ضحية التعذيب السكندري في أحد الأحداث الفاصلة عشية الثورة. وهو يوظف بذكاء ظاهرة الجرافيتي في قصته، كطريقة للإعلان عن حفلة، وهو الفن الذي سيصبح أحد الملامح الثقافية البارزة لثورة الجيل السياسية.انظر مثلا مراجعتي أورسولا لندسِاي http://www.thenational.ae/arts-culture/music/ahmad-abdallas-microphone-… ونك تشاچر http://www.slantmagazine.com/film/review/microphone/5347
للوهلة الأولى يبدو كل ذلك طبيعيا ومستحقا ولا غبار عليه. بل هناك ما هو أكثر على مستويات أخرى. ففيما يبدو قطيعة حادة مع تراث طويل في السينما المصرية، غذى وعيا جماهيريا مشوها، تتحطم قصص النجاح الرخيصة للموسيقيين الفقراء الصاعدين على صخرة واقع صلب، لا تزيفه طلبا للسلامة أو تشيح بوجهها عنه طلبا للترفيه سينما جديدة تعيد إلى المجتمع طابعه السياسي، كما تصبح الموسيقى فيها تاريخية ومتواشجة مع صراعاته (وهو هنا امتداد لعملين مختلفين مميزين هما «سمع هس» و«آيس كريم في جليم»). لكن نظرة أخرى قد تكشف مشاكل فنية وفكرية في سينما وموسيقى الجيل والثورة ( المسماتين بالمستقلة والبديلة) تضع مسألة القطيعة هذه موضع تساؤل.
لم يتوقف النقد السلبي للفيلم في بلده كما في العالم العربي والغرب إلا عند الشخصيات المسطحة والحبكات الفرعية الفقيرة، وهي عيوب حقيقية أساسية بالطبع، تطرح للبحث مسألة الشكل والإنتاج، في مجال يزعم استقلاليته واختلافه الجذري لكنه لا يزال يخضع لشروط غير فنية تضر قضيته فيخرج العمل من وثائقيته المثالية المنشودة منذ البدايةحواران مع المخرج في الشروق الجديد http://www.masress.com/shorouk/333588 وموقع دويتشه ڤيلله http://dw.de/p/12C0u ويترهل لتحقيق المظهر الاعتباري المقترن بفيلم روائي طويل لمخرج شاب.
لكن العيب الآخر الكبير في رأيي أغفل تماما، وهو الخاص بموضوع الفيلم ذاته، إذا نحينا جانبا كل العناوين العريضة المتزاحمة التي تشي باستمرارية مزعجة أخرى عبر أجيال من صناع أفلام سياسية يريدون أن يقولوا كل شيء، أو بالأحرى يعدوا قائمة بكل شيء بمنطق كمي وانفرادي (التزلج بالألواح مثال آخر على هذا في الفيلم)، وهو موضوع القمع الموسيقي، أو الاضطهاد الثقافي بمعناه الأوسع.
ينقلنا هذا مباشرة إلى الملاحظة النقدية المشتركة الأخرى في المراجعات، وهو التأثر الواضح بفيلم «لا أحد يعرف عن القطط الفارسية» (بهمان قبادي، ٢٠٠٩)انظر مثلا http://www.emaratalyoum.com/life/cinema/2011-01-30-1.348555 وhttp://www.almasryalyoum.com/news/details/155883 وhttp://dubaifilmfest.com/ar/archives/year-2010/diff-daily?day=day-6&dai… وhttp://www.slantmagazine.com/house/2011/29/new-directorsnew-films-2011-…، وإن لم يُرَ في هذا أمر سلبي كما يوحي دفاع المخرج-الكاتبانظر مثلا محادثة بين المخرج ويسري نصر الله على تويتر https://twitter.com/ahmada2/status/233563022789079040 الذي يزعم ابتعاد عمله عن مغازلة الغرب على عكس الفيلم الإيراني،حوار مع المخرج في الشروق الجديد، سبق ذكره http://www.masress.com/shorouk/333588 بالرغم من أنه بعد مرور وقت عبر عن اهتمامه بنظرة العالم لنا وارتياحه إلى عدم وقوع الفيلم في محلية مفرطة.حوار مع المخرج في موقع دويتشه ڤيلله، سبق ذكره http://dw.de/p/12C0u
لكن المقارنة بين العملين تكشف الكثير عن موضوع «ميكروفون» ومشكلتهانظر مقارنة إليز ناخنكيان http://www.slantmagazine.com/house/2011/29/new-directorsnew-films-2011-… وهو يعتبر الفرق بين «ميكروفون» و«القطط الفارسية»، بعد اعتبار الأول مشابها بشكل لافت للثاني، بالفرق بين حمام سباحة أطفال وآخر عميق.. ولنبدأ بمقارنة الظروف. ففي حين عرض «ميكروفون» في دور السينما التجارية الكبرى في العاصمة والعاصمة الثانية، بدون اعتراض رقابي واحد، وفاز بالجائزة الأولى في مهرجان السينما الرسمي التابع للدولة ببلده، وعرض بعدها عشرات وربما مئات المرات على كل قنوات الأفلام الفضائية العربية الرئيسية، نفي قبادي خارج إيران، وكانت مؤلفته أثناء ذلك في السجن بتهمة التجسس، وبالطبع لا مجال للحديث عن عرض الفيلم أو فوزه بأي جوائز في بلده. وينقلنا هذا التباين بين الحريات المتاحة لصناع السينما في البلدين إلى مقارنة مماثلة بين مجتمعي الموسيقى المستقلة أو البديلة أو السفلية. والكلمة الأخيرة منطبقة حرفيا على المشهد الموسيقي المعني في إيران، وتتوالى في الفيلم مشاهد لقاءات الموسيقيين، الذين يجهلون بعضهم ويجاهدون للتواصل والتعاون، في الأقبية المظلمة أو مواضع حقيقية ورمزية في هامشيتها معا بعيدة عن الأعين، في الخلاء أو على أسطح العمارات السكنية ومع حرص مشدد خشية إبلاغ الجيران للشرطة.
ففي الوقت الذي يتعرض فيه الفنانون بل والمستمعون الإيرانيون إلى الاعتقال والسجن بالجملة، أقيم في مصر المهرجان الموسمي SOS (نداء استغاثة يعني "أنقذوا أرواحنا!" [من الموسيقى السائدة]) الذي كان من ضمن رعاته في دورة ٢٠٠٩ شركة ڤودافون وجمعية أهلية على علاقة وثيقة بالدولة والمنظمات الدولية نشأت من مؤتمر السكان والتنمية، كما استضافته مكتبة الإسكندرية وشاركت فيه من فرق الفيلم على سبيل المثال «مسار إجباري».http://www1.youm7.com/News.asp?NewsID=72789#.U2BaDlSSzZg ومن المثير للاهتمام، إذا كانت ذروة الفيلم المصري هي منع إقامة حفلة في الشارع، أن مهرجان شارع أقيم بشكل متكرر بدءا من ٢٠٠٥ بأحد أرقى أحياء القاهرة تحت رعاية سوزان مبارك، وشاركت فيه فرقة وسط البلد مثلا وأحد مؤسسيها هو أحد أبطال الفيلم الممثل والموسيقي هاني عادل.http://www.alraimedia.com/Articles.aspx?id=125159 وهذا فضلا عن توفر عدد من المنافذ الثقافية الخاصة والأجنبية وفرص التمويل المدني والأجنبي لألبومات هذه أو تلك من الفرق المستقلة.انظر السجال الدائر في «معازف» حول الموسيقى المستقلة: http://ma3azef.com/taxonomy/term/1250. انظر أيضا مقالات أحمد ناجي في «أخبار الأدب» عن المؤسسات الثقافية المستقلة المنشورة في ربيع وصيف 2014.
"لنجعل آباءنا يروننا نعزف ولو مرة،" كما تقول نِجار بأمل ومرارة وهي تسعى مع رفيقها أشجان بعد خروجهما من السجن إلى إكمال المطلوب من أعضاء جدد وأعمال وأوراق للخروج من السجن الأكبر للأداء في أوروپا وربما البقاء هناك. فالانتماء هنا للفن، والغربة كاملة، والاستقلالية دون أي ميوعة بالتالي. وفي ترديد مشوه لهذه التيمات يقحم «ميكروفون» على موضوعه الوثائقي الأصلي بطله خالد العائد من السفر وصاحبته السابقة التي ستسافر وهكذا—وهو يتقاطع في رحلته مع رحلة ثنائي آخر مقحم من طالبي سينما في علاقة حب أكثر غموضا وخواء دراميا، وتصبح حبكة موقع الإنترنت المصطنعة مكملة لحبكة فيلمهما المتعثر لعدم تفاهمهما، ويضاف التصوير في علبة الحذاء كإيحاء ضعيف آخر بالسرية والمعاناة، والنتيجة ككل هي ادعاء بائس للنضال والمقاومة وتوسل بكل وجه شبه بعيد مع «القطط الفارسية» التي لا يعرفها أحد حقا وتعامل معاملة الحيوانات النجسة المحرم وجودها في المجال العام. (ألم تكن مشاهد محاولة إبقاء السمكة على قيد الحياة مثالا آخر على المحاكاة الساذجة؟)
"ولكنك هنا لا يمكنك أن تلعب أي نوع من الموسيقى،" يقول أشجان، في مشهد مع نادر 'الميسِّر' والموسيقي هو نفسه الذي يكشف لنا في خط تراچيكوميدي تناقضات ودهاليز وتشابكات ونفاق النظام بطريقة تتواضع أمامها شخصية المسئول الحكومي المضخمة بشكل كاريكاتوري فج في «ميكروفون»، مشهد يذكرنا بسامزدات الاتحاد السوڤييتي ، حيث متابعة الاهتمام الفني وتداول الأعمال نفسه حالة مقاومة ثقافية، على عكس ازدواجية الفنان والمثقف المصري الباحث عن رعاية ودعم وحماية الدولة مع ادعاء معارضتها والتمايز عنها في الوقت نفسه،«بين كتبة وكتاب: الحقل الأدبي في مصر المعاصرة»، ريشار چاكمون، ترجمة بشير السباعي، دار المستقبل العربي، 2004 والتي يكشف«ميكروفون» دون أن يدري أو يقصد استمراريتها، والبحث عن الجمهور بأشكال تؤدي إلى تنازلات فنية ورقابية، وكل هذا يجرد مفهوم الموسيقى السفلية، أو حتى المستقلة أو البديلة، من معناه، ويمكن سحب ذلك على كل إنتاج فني وثقافي مماثل.
إن الرقابة في مصر، الأكثر توحشا مع الوسائط الأكثر انتشارا وجماهيرية من الكتابالمصدر السابق.، ليس هناك ما يقلقها في فيلم عبد الله، وقد قنع هو وزملاؤه فيما يبدو بأن غاية الطموح هي تسريب كلمات مثل "خرا" وتشفير الألفاظ البذيئة (مثلما في مشهد الشتيمة الموجهة على الحائط للمسئول الحكومي)، بل وستتكفل الرقابة الذاتية باستبعاد اللازمة المشفرة لأغنية "ألف حا هيه" (اختصار "أرفض حدوث هذا" وفقا للفريق). لكن هذه ستكون أسبابا إضافية كافية لزهو شباب الجيل الذي يغازله عبد الله بانتصاره الطفولي لهم.
وفي القاهرة كما في الإسكندرية، فالفيلم لم يقنعنا بخصوصية ما للأخيرة، لا يجد الموسيقيون 'السفليون' غضاضة ليس فقط في رعاية الشركات العالمية الكبرى والاستعانة بالظهور في السينما والمسلسلات التجارية بل يصبح بعضهم مادة دعائية (إن لم يشاركوا في إعلانات تقليدية حتى) في عصر أصبح فيه رأس المال تحت لافتة الدور الاجتماعي يسوق شخصية ثقافية لنفسه تستقطب جمهورا شابا يتميز على عكس الأجيال السابقة بميوعة فكرية تحت لافتة الرحابة. وينقلنا هذا التشوه إلى إعلان موبينيل الذي زعم عبد الله اضطراره إليه لدعم مشروعه التالي «فرش وغطا» (لم تكن تنازلات «ميكروفون» كافية إذن!) ولتحليل الإعلان بعدان فيما يخص موضوع بحثنا: الأول هو حدود الطابع المستقل/البديل/السفلي للموسيقى المعنية، والثاني اتصاله المباشر بوعي المخرج-الكاتب الخاص بقضية الاضطهاد الثقافي الموسيقي في بلده.
ففي تحية اعتذارية واضحة، وإن كانت مشوهة تماما، تزيد الطين بلة وتمثل ذنبا جديدا، يبرز الإعلان أنواعا موسيقية محلية مثل السمسمية والبدوية السيناوية والنوبية (إلى جانب، طبعا، تكنو-شعبي قاهري وهِپ-هوپ في ترام الإسكندرية). الرسالة الجامعة في الفيلم الإعلاني القصير هي التأكيد على الوحدة الوطنية والتنوع مع قيم شركاتية مستوحاة من خطاب التنمية الذاتية، حيث تظهر صورة مصر مصقولة مثالية بشكل تعبوي ليبرالي جديد (ويزيد الأمر سوءا في اللحظة الثورية باتخاذ أبعاد مضادة للثورة بل وفاشية تذكر بقصيدة بريخت عن احتياج الشعب الثائر إلى العمل كي يستعيد ثقة الحكومة). ويتكرر الاعتذار الكاشف عن الإحساس المستجد بالذنب في «فرش وغطا» في لقطة وثائقية لشهادة أحد مقموعي الموالد.
يلاحظ سامي السلاموني بأسى كيف انحرف وتدهور مخرجون مصريون واعدون وكبار بسبب رضوخهم لشروط السوق،«الأعمال الكاملة: الجزء الثاني»، سامي السلاموني، الهيئة العامة لقصور الثقافة ويبدو أن الفارق بين تلك الأجيال والجيل الجديد بمخرجيه الأوسع الحيلة أن الأخيرين بينما يدّعون اقتصار التنازل على مجال خارج الفن نفسه فإن خطابهم الفني وتأثيرهم في المجال العام يصبح في أفضل الأحوال مشوشا ومزدوجا، ولا تعدو تطهريتهم الفنيةفي محادثة مع المخرج استخدم كلمة "مقدسة": https://twitter.com/ahmada2/status/279391954863812608 إلا ترديدا لازدواجية عتيدة تذكرنا برد نجيب محفوظ على جمال الغيطاني عندما لاحظ الأخير اختلافا بين ما يقوله في أدبه وفي الصحافة: "صدق إذن العمل الفني."مذكور في «بين كتبة وكتاب»، سبق ذكره.
ومن المفيد أن نتذكر هنا كيف حوّل الشيخ إمام أغنية لسيد درويش (الحاضر في الفيلم وفي المشهد الموسيقي الشبابي السكندري، وهو ما يستدعي مقارنة أخرى تخص المحتوى والهم الاجتماعي والتطور الفني والاستقلالية)، لتصبح "سالمة يا سلامة" عبارة ترحيبية ساخرة بكوكاكولا "جات بالسلامة" في مطلع الليبرالية الجديدة. وبعد أكثر من ثلاثة عقود، يمارس عمرو دياب رقابة ذاتية (إن لم تكن رقابة شركاتية سافرة) فيمتنع عن ذكر كلمة "كوكاكولا" في أغنية "رصيف نمرة خمسة"“بمفردات بسيطة، تتناول الأغنية أيضاً القسوة الاجتماعية "وعبد الله رشدي المحامي القدير/ بيرفع قضية في باب الوزير/ على عم فكري بتاع البليلة/ عشان مرة زعّق بصوته الجهير"، ثم تصف هوس الانفتاح: "بقالة الأمانة ونصحي السروجي/ عاملين لي شركة في مشروع بوتيك/ ونادوا لعبده الفرارجي يشاركهم/ فردّ بألاطة ما احبش شريك"، قبل أن تتطرّق إلى مآل الحياة في ظل المجتمع الاستهلاكي: "تبزنس تعيش لآخر حياتك/ ولو باعوا فرخة هاتاخد عمولة"، وصولاً إلى مجتمع يملأ شوارعه "أطفال عجايز/ في مهد الطفولة/ وأفلام قديمة وإعلان كاكولا”.ومنذ أيام، فوجئ مشاهدو الڤيديو المحمّل على يوتيوب الذي انتشر بسرعة على فايسبوك، بـ«الهضبة» يغنّي المقطع الأخير من دون أن يذكر كلمة «كاكولا». لكنّ الخطوة ليست صدفة، فقد كرّرها النجم المصري مرّتين، مكتفياً بإشارة من يده، في ما بدا احتراماً أكثر من اللازم لتعاقده الإعلاني مع پيپسي (المنافس الشرس لكوكاكولا في سوق المشروبات الغازية)، وخصوصاً أنّ كوكاكولا استخدمت في الأغنية في سياق انتقادي.” http://www.al-akhbar.com/node/182498 من فيلم «آيس كريم في جليم» المشار إليه سلفا والذي سبق «ميكروفون» بعقدين تقريبا في تناول موسيقى الشارع وتحكم المنتجين بفنية أعلى كثيرا رغم اعتماد الفيلم على المغني الرائج آنذاك.
ويضعنا كل هذا أمام السياق التاريخي والاجتماعي المحجوب في «ميكروفون» (ولعله لو اختار مسارا مختلفا لاتزن بالمقارنة مع «القطط الفارسية»)؛ ففي فيلم يوسف شاهين «العصفور» (١٩٧٢) كما في مشاريع تخرج معهد السينما عبر عقدين على الأقل، يذكر الشيخ إمام باسم إمام عيسى إرضاء للرقابة. (وبالرغم من تخفيف القبضة كثيرا في سنوات مبارك الأخيرة بفضل الإنترنت جزئيا، لم يظهر فيلم عن أحمد فؤاد نجم، الصنو الشعري لإمام، إلا في أعقاب الثورة، بغض النظر عن انتهازيته التجارية.)
ولا تتوقف المسألة أبدا عند قمع الموسيقى السياسية الصريحة، وهو ما يمكن أن يصل كما حدث في بلدان أخرى إلى اغتيال المغنين (الراپجي باڤلوس فيساس في اليونان مؤخرا بعد إبراهيم قاشوش في سوريا، ويذكر في الماضي ڤكتور چارا). وتتخذ المسألة بعدا إثنيا في حالة النوبيين عندما اعتقلت الشرطة مرارا خضر العطار في عقد ١٩٨٠ لأدائه أغنيات مناهضة للتهجير—في الوقت الذي كانت الموسيقى البديلة في القاهرة تعلن بكلمات فؤاد حداد الشيوعي المعتقل من قبل عبد الناصر وعلى لسان محمد منير ومن ألحان أحمد منيب النوبيَيْن "رجع يا نوبة عنواني / كوم امبو رايقة وأمينة".
وما يثير الاستغراب هو لماذا لم يصنع عبد الله فيلما عن مأساة المتّيلة (مستمعي الميتال) التي شهدها في مراهقته (وهذا الوصم بـ"الشيطانية" مأساة معاصرة في «القطط الفارسية» بل جدّد فاصل قصير النسخة المصرية من المأساة في القاهرة بعد صعود الإسلاميين) أو يربط بها أو حتى يشير إليها مجرد إشارة في «ميكروفون»؟ هكذا يضيع فرصة ذهبية لإكساب عمله اتزانا في الشكل والمضمون، إن كان شباب الجيل هو ما يعنيه حقا، ولتفادي إحراج مواطنيه أمام الإيرانيين!
لكن ما يغيظ بالفعل هو تضخيم الاضطهاد الثقافي المزعوم لموسيقى جيل يحاول أن ينفتح ويهجن ويبدع في بلد موسيقاتها الأصلية هي المضطهدة. والمفارقة الساخرة (وربما الفرصة الضائعة الأخرى) وجود أغنية "زار" في الفيلم، ما يحيلنا إلى موسيقى مقموعة "شيطانية" أصيلة. والسمسمية حالة أخرى لتحالف الليبرالية الجديدة مع السلطة والنخب الثقافية معا في الحرب على الثقافات الموسيقية الوطنيةانظر http://www.ma3azef.com/node/179 و http://web.archive.org/web/20050410211126/http://www.kenanah.com/static…، وتعد الحرب على الموالد الشعبية مثالا كاشفا أكثر من غيره فيما يخص تحالف الشرطة والقوى الدينية“Downswing: Moulids are under pressure from all sides,” Jennifer Petersen, Cairo Magazine, 2, 10-16 March 2005, pp 14-9. (لمطالعة نسخة: www.scribd.com/doc/138499456/Downswing-Moulids-are-under-pressure-from-…) وهو تحالف ألمح له الفيلم على استحياء.
وتتعمق انعزالية صناع الفيلم وأبطاله على السواء – وهم يمتعضون من الاهتمام بمعيدي أغاني أم كلثوم على حسابهم – إذا أضفنا معاناة الموسيقيين النقابيينانظر حوارا مسجلا مع الطبال الشهير خميس حنكش: https://www.youtube.com/watch?v=j9iLiVdTOU8 والتي أبرزها فيلم «هستيريا» (١٩٩٨)، وهو انفصال يشتد غرابة بعد الثورة التي يفترض تجاور مطالب الشباب فيها مع مطالب العمال. فأي معنى يبقى لجذور الميكروفون على أفيش الفيلم؟—إذا نحينا تهويمات الفيتيشية السكندرية التي تأخذ سابقتها في «هليوپوليس»، فيلم عبد الله الأول والأفضل بمراحل، إلى مستوى أعلى تماما يتضافر فيه البصري مع شريط الصوت في أغنية عن الإسكندرية تشبه قصائد الفخر القبلي التي عفت عليها القرون مقابل بيان سياسي بديع في «القطط الفارسية» على شكل أغنية راپ عن قبح وظلم طهران، المدينة الحية دون نوستالچيا.
صراع أجيال—هذا هو كل ما يراه فنانو الجيل الصاعد في مصر. وضيق النظرة الجيلية هنا يتواضع حتى بالمقارنة مع ما يحكيه بعض ضحايا حقبة ملاحقة المتيلة عن طرد آبائهم لهم من المنزل (وهو صراع اجتماعي وسياسي يتخذ شكلا جيليا ليس إلا)، فنجد عوضا عن ذلك قصة هلامية ماسخة عن اتهام شاهين بسرقة مصوغات خالته وهروبه من الشرفة. وهو في مشهد آخر يرتل الراپ على والد خالد، وهو موسيقي معتزل مكتئب، فيطالبه الأخير بالإبطاء. وهذه اللمسة الكوميدية الذكية كانت تقبل التطوير لمعالجة الفروق الثقافية. وفي «القطط الفارسية» مثلا لمسة موازية تتضمن السخرية من الذات والآخر عندما يشكو عامل المزرعة من توقف الأبقار عن در اللبن منذ بدأ عزف موسيقى الميتال هناك. ليست المسألة اختلاف الأجيال فقط، ويقدم لنا عدم اعتراف نينا سيمون مثلا بالراپ (الأصلي)، إبداع بني جلدتها، مثالا غنيا عن التناقضات الإثنية والطبقية عند مغنية تعتبر الزواج من الرجل الأبيض تنازلا بينما تتقن الپيانو الكلاسيكي لتبزّه في ميدانه.http://www.ma3azef.com/node/142
والإمكانات المجهضة في «ميكروفون» كثيرة. أولها التضحية بقوة القصة الأساسية التي ضاعت في الزحام وهي لجوء فريق من الفتيات إلى ارتداء أقنعة خشية أهلهن وأصحابهن، وحتى المشهد المشحون في السيارة مع صاحب إحداهن يختزل بعجلة واقتضاب غريبين ومحبطين—ويبدو أن "ماسكارا" دمج بليغ بين معنى القناع ودلالات التجميل النسائي. لكن الإمكانات تشمل أيضا ما كان لوثائقي أو شبه وثائقي أن يبحثه من خبرة الموسيقيين في التجريب والتهجين (في «القطط» جملة حوارية عن الإندي-روك الكردي) وماهية التطوير الذي تم على أيديهم بعد ثلاثة عقود من ظهور الچاز الشرقي على أيدي جيل أساتذتهم، وأعني ما يشبه ترجمة سينمائية لنهج ستادز تركل في تسجيل تاريخ شفاهي عن العمل، وهو ما من شأنه أيضا عقد جسر حقيقي مع جماهير غفيرة من العاملين بأجر، ويجدر بالذكر أن عرضا موسيقيا أعيد إنتاجه مرارا منذ أواخر عقد ١٩٧٠ استلهم مقابلاته مع العمال. وينبهنا حوار في «القطط» عن السوداوية في الأغاني إلى جانب مهمل آخر هو الاتجاهات المتنوعة العدمية والأناركية وغيرها عند الجيل والمتناقضة مع استمراريات وطنية ورومانسية ومحافظة أطلت برأسها في الفيلم.
هل كان الفيلم وصفة جاهزة واستهلاكية تستغل جاذبية شكلية للجديد؟ يمكننا على الأقل أن نتعشم في ألا تكون هذه عملية واعية. ومما يستحق التشجيع اتجاه المخرج إلى التجريب بالكاميرا الرقمية الخفيفة دون سيناريو يذكرحوار مع المخرج http://www.dohafilminstitute.com/blog/dfi-film-review-microphone.، وإن كانت مرونة السيناريو لا تبرر خفة الرؤية. وفي الأفلام الثلاثة في مسيرة المخرج يبشرنا المشترك الفني بأن عالمه السينمائي آخذ في التكون ويشي بحساسية جديدة تؤكد على التفاصيل الإنسانية والفردية المرهفة في النسيج الاجتماعي. لكن الإقناع الفني يتطلب من الجيل العمل على مزيد من الربط والتحليل والاهتمام بسردية أغنى، بما سيخدم السلاسة والتدفق شكلا ومضمونا عوضا عن الارتباك الحادث. وربما على الجيل أيضا مراجعة تناقضاته الأيديولوچية، من قبيل السينيكية التي تجعل كل شيء قابل للسخرية دون ضرورة أحيانا—مثل إصدار حكم أخلاقي عابر غير مفيد للقضية على المسئول الحكومي من خلال زلة لسان "سوفتوير والا هاردكور؟" للإيحاء بأن الرجل المتشدق بالأخلاق يشاهد الأفلام الإباحية.
والمراجعات المطلوبة تشمل نقاش الشكل والمضمون، والصنعة الحرفية والفن، ومعنى الاستقلال الفني وتحديد من الجمهور، في زمن تتأكد فيه في آن واحد التناقضات والإمكانات التي رصدها پول ڤاليري وڤالتر بنچامين من الاستنساخ الآلي للفن، أي إضفاء التوحيد القياسي الصناعي عليه، وانفجار أشكاله المحتملة في الوقت نفسه بما يخدم المضامين الثورية.“The Work of Art in the Age of Mechanical Reproduction”, Illuminations, Walter Benjamin.
إن «ميكروفون» كفيلم سياسي مدجن يئول إلى إعلان غنائي ترفيهي طال فوق الحد لأسباب إنتاجية ومظهرية بلا دراما ولا أفكار ولم يكن يفترض بهذا أن يحدث أبدا. لكنه على أي حال ومن حيث لا يدري يكشف اختلالات محتوى الجيل الغارق في تمجيد الذات والتمحور حولها وفي الوقت نفسه إعادة إنتاج خطاب خصومه.
إضافة تعليق جديد