من أجل سينما غير خالصة
الدفاع عن الاقتباس. إذا عدنا إلى الماضى قليلا وقمنا بنقد إنتاج السنوات العشر أو الخمس عشرة الأخيرة، فإنه يتضح سريعاً أن إحدى الظواهر التى تسيطر على تطور هذا الإنتاج إنما هى الالتجاء المتزايد إلى التراث الأدبى والمسرحى التجاء له دلالته ومعناه.
والواقع أن السينما لم تتخذ منذ اليوم فقط من القصة والمسرح مورداً، ولكن يبدو أن ذلك لا يتم بنفس الطريقة. إن إعداد قصة الكونت دى مونت كريستو أو قصة البؤساء أو قصة الفرسان الثلاثة ليست من نفس طبقة إعداد قصة السيمفونية الريفية أو قصة جاك المؤمن بالقضاء والقدر (سيدات غابة بولونيا)فيلم من إخراج روبير بريسون (١٩٤٥)، وحوار جان كوكتو وتمثيل ماريل كازاريس وبول برنار. وهو عن قصة قصيرة للكاتب ديدرو، الذى عاش فى القرن الثامن عشر (المترجم). أو قصة الشيطان الجسدفيلم من إخراج أوتان – لارا، ومن تأليف راديجيه. ظهر فى سنة ١٩٤٧ ومثله جيرار فيليب وميشلين بريسل. وهو قصة امرأة كان زوجها غائبا فى الحرب العالمية الأولى فأصبحت عشيقة لطالب شاب (المترجم). أو قصة يوميات قس فى الأرياففيلم من إخراج روبير بريسون عن قصة جورج برناسوس، ظهر عام ١٩٥٠ (المترجم).. ولم يكن الكساندر دوما أو فيكتور هوجو يقدمان قط لرجل السينما إلا شخصيات ومغامرات يعتبر التعبير الأدبي عنها مستقلا إلى حد بعيد. إن جافير أو دارتانيانجافير هو رجل الشرطة فى قصة البؤساء لفيكتورهيجو. ودارتانيان هو أحد الفرسان الثلاثة فى قصة الكسندر دوما. (المترجم). يعتبران منذ الآن جزءا من أسطورة بالغة الخيال والغرابة، وهما يتمتعان إلى حد ما بوجود مستقل لم يعد العمل الأدبي الذى خلقهما إلا إفصاحا عرضيا وازائداص عن وجودهما المستقل. ومن جهة أخرى فأننا نداوم على إعداد قصص ممتازة أحيانا، ولكن من الجائز أن نعالجها على أنها أفكار اساسية من التى يسميها السينمائيون Synopsis ولكن وصلت إلى تفاصيل بعيدة. وهناك أيضاً شخصيات ومجموعة حوادث، وفوق هذا – وفى هذه الحال نرتفع إلى درجة أكبر واعلى – فهناك جو وإطار مثل الجو الذى يسيطر على قصص جورج سيمينيون، أو جو شاعرى كما هى الحال عند بيير فيرى، كل هذا سيطلبه رجل السينما من مؤلف القصة. ولكن هنا أيضا يمكننا أن نتصور ان الكتاب لم يكتب وأن الكاتب ليس إلا كاتب سيناريو مسهبا فى كتابته. وهذا صحيح لدرجة أن عديدا من القصص الأمريكية من نوع المجموعة السوداء، و واضح أنها قد كتبت لهدف مزدوج، إذ قد يكون من المحتمل أن يقدر لها إعداد سينمائي في هوليوود. كما يجب أن نلاحظ أن احترام الأدب البوليسى، عندما يقدم شيئا من الطرافة والابتكار، يتزايد فى التاثير وبعث الاهتمام به، وإذا كان هناك تصرف مع ما كتبه المؤلف، فإن ذلك يكون سببه إدراكا سيئا أو سوء نية. ولكن عندما يعلن روبير بريسون قبل أن ينقل إلى الشاشة قصة يوميات قس فى الأرياف أن فى نيته أن يتبع نص الكتاب صفحة صفحة، بل جملة جملة، عندما يعلن ذلك نرى أن الأمر يتعلق بشىء آخر مختلف تماما، وأن هناك قيما جديدة قد دخلت فى هذا المجال. لم يعد رجل السينما يكتفى بأن يسلب و ينهب كما قام بذلك على أية حال من قبله كوريبي أو لا فونتين أو مولييرهؤلاء من أكبر شعراء وكتاب القرن السابع عشر الكلاسيكي الفرنسى. كورنى الذي كتب مسرحية السيد و وهوراس كان مفتبسا لموضوعات مسرحياته وفكرتها ولافونتين، الذى تحدثنا عنه فى الحزء الأةل من هذا الكتاب اقتبس حكاياته من إيزوب. أما موليير فهو أقل كتاب هذا العصر اقتباسا، وإن كان النقاد قد سعوا إلى اكتشاف مقارنات بين شخصياته وشخصيات أخرى. (المترجم) ، إنه يسعى إلى أن ينقل إلى الشاشة، فى صورة طبق الأصل تقريبا، عملا أدبيا يعترف مقدما بامتيازه وتفوقه. وكيف يكون الأمر غير هذا، إذا كان العمل الأدبى قائماً على شكل ممتاز متطور من الأدب حتى أن أبطال القصة أو المسرحية ومعنى أفعالهم تخضع خضوعا كبيرا لأسلوب الكاتب وعندما يكونون محصورين فى هذا العمل الأدبى كما لو كانوا فى عالم بالغ الصغر لم تعده لقوانينه، وهى ضرورية لازمة إلى أبعد حد، أثرها وسريانها فى خارج هذا العمل الصغير. وعندما نرى أن القصة قد تخلت عن بساطتها الملحمية، وأنها لم تعد قالبا للأساطير، بل أصبحت موضعا لغموض دقيق بين الأسلوب، وعلم النفس والأخلاق أو الميتافيزيقا؟
وفى المسرح نجد أن اتجاه هذا التطور أكثر وضوحا أيضا. إن الأدب المسرحى، شأنه فى ذلك شأن القصة، قد ترك السينما دائما تمارس عليه عنفها وقسوتها. ولكن من يجرؤ أن يقارن بين فيلم هاملت الذى أخرجه لورانس أوليفييه وبين ما تم فيما مضى عندما صورت محاولة فاشلة لهذه المسرحية فى فيلم فنى من بين مسرحيات الكوميدى فرانسيز؟ لقد كان تصوير المسرح دائماً شيئا يغرى رجل السينما، ما دام هذا المسرح يعتبر بطبيعته عرضا من العروض؛ ولكننا نعرف نتيجة ذلك. فمن أجل هذا أصبح من الواضح فعلا أن تعبير "المسرحية المصورة فى فيلم" كلمة يرددها النقاد على أنها فضيحة الفضائح. على الأقل كانت القصة تتطلب جزءا معينا من الخلق والإعداد لتنتقل من الكتابة إلى الصورة. أما المسرح فهو على العكس صديق مزيف؛ إن أوجه الشبه الوهمية بينه وبين السينما كانت تقود السينما فى طريق من الركود، وتجذبها إلى منحدر من جميع أنواع السهولة واليسر. ومع ذلك فإنه إذا كانت مجموعة المسرحيات التى مثلت على مسارح البوليفارحى المسارح فى باريس يقابل عندنا شارع عماد الدين فيما مضى. (فى باريس)، مثلا، قد أصبحت أصولا لعدد قليل من الأفلام التى لاقت بعض النجاح، فذلك لأن المخرج قد سمح لنفسه أن يجرى على المسرحية أنواعا من التصرف فى الإعداد تشبه تلك التى سمح لنفسه باتخاذها مع القصة، ولم يحتفظ أساسا إلا بالشخصيات وبالحدث. ولكن، هنا أيضا، تقوم ظاهرة جديدة يبدو أنها تبرز، على العكس، كمبدأ لا يمس، احترام الطابع المسرحى للنموذج الذى تحول إلى فيلم.
إن الأفلام التى ذكرناها هنا، وأفلاما أخرى، سيخطها قلمنا دون شك بعد قليل، أفلام عديدة وذات طابع لا يرقى إليه الشك أو المجادلة حتى يكون فى إمكاننا اعتبارها شواذ تؤكد القاعدة. بل على العكس، فإن مثل هذه الأعمال الفنية تعتبر منذ عشر سنوات معالم واضحة لاتجاه من أخصب الاتجاهات فى السينما المعاصرة.
قديما كتب جورج التمان على غلاف كتاب نشره فى تمجيد السينما الصامتة، من عهد فيلم الحاج حتى فيلم الخط العام، كتب يقول: "أما هذا فإنه سينما". إذن هل لنا أن نعتبر من الآن فصاعدا تعاليم وآمال النقد السينمائي فى عهده الأول الذى كان يدافع عن استقلال الفن السابع، أن نعتبرها آراء عتيقة بالية؟ هل السينما، أو ما تبقى منها، عاجزة اليوم عن أن تقيم أودها وتحيا دون عكازات الأدب أو المسرح؟ هل هى فى طريقها إلى أن تصبح فنا ثانويا تابعا، فنا هو تكرار ونسخ لأى فن تقليدي؟
وعلى أى حال فإن المشكلة التى تعرض لتفكيرنا ليست على درجة كبيرة من الجدة: إنها أولا مشكلة الأثر الذى تحدثه الفنون، كل فن فى الفن الآخر، ومشكلة الاقتباس بصفة عامة. لو كان عمر السينما ألفين أو ثلاثة آلاف من السنين، لرأينا دون شك، بصورة أوضح، أن السينما لا تخرج على القوانين المشتركة لتطور الفنون. ولكن عمرها لا يبلغ إلا ستين عاما، والمنظورات التاريخية قد تم القضاء عليها بطريقة مذهلة. إن ما يتضح عادة خلال الوقت الذى تستغرقه حضارة أو حضارتان قد اتضحت هنا معالمه فيما تستغرقه حياة رجل واحد. وليس هذا فحسب السبب الرئيسى للخطأ، لأن هذا التطور السريع لا يساير من حيث الزمن تطور الفنون الأخرى. إن السينما فتية شابة، ولكن الأدب، والمسرح، والموسيقى، والتصوير، قديمة قدم التاريخ. وكما تم تربية الطفل بتقليد الكبار الذين يحيطون به، فإن تطور السينما قد تأثر وأخذ سمته دون مناص على نهج الفنون القائمة ذات الدعائم المثبتة: إن تاريخها منذ بداية القرن الحالى من شأنه أن يكون إذن ناتج الحتميات النوعية الخاصة بتطور كل فن، كما هو ناتج الآثار التى أثرت بها عليها فنون بلغت درجة التطور والاكتمال. ويزيد غموض هذا المركب الجمالى حدة ما يصادفه من اعتراضات اجتماعية، فالسينما تفرض نفسها فعلا على أنها الفن الشعبي الوحيد فى زمن لم يعد فيه المسرح نفسه وهو الفن الاجتماعى بمعنى الكلمة، لم يعد يخاطب ويؤثر، إلا فى أقلية مماتزة من ناحية الثقافة أو المال. وربما سوف تحسب، فى تاريخ السينما؛ السنوات العشرون الأخيرة كحمسة قرون فى الأدب. إن هذا قليل بالنسبة لأى فن، وهو كثير بالنسبة لاتجاهنا فى النقد. فلنحاول إذن أن نحدد مجال هذه التأملات والآراء.
لنلاحظ أولاً أن الاقتباس، الذى يعتبره النقد الحديث إلى حد ما خطوة مخجلة، هذا الاقتباس هو لازمة من لوازم تاريخ الفن. لقد أظهر مالرو ما يدين به عصر النهضة التصويرية، فى أساسه، لفن النحت الغوطى. إن جيوتو Giotto يصور على طريقة المستدير المنحني البالغ البروز، ولقد امتنع ميشيل – انجلو بمحض إرادته عن الالتجاء إلى التلوين بالزيت، لأن المظلم يناسب فى رأيه خيرا من غيره، تصوير التمثايل. وربما لم يكن فى هذا إلا مرحلة تم إجتيازها بسرعة فى طريق تحرير التصوير "الخاص". ولكن هل نستطيع أن نقول إن جيوتو يقل مكانة عن رامبراندت؟ وماذا يعني إذن هذا الترتيب وهذه الطبقية؟ وهل سننكر أن المظلم بالمستدير المنحنى لم يكن مرحلة لازمة ضرورية ومن ثم لها تبريرها من الناحية الجمالية؟ وماذا نقول أيضا عن الصور الصغيرة (المينياتور) البيزنطية التى تم تكبيرها فى الحجر إلى أحجام المساحات المثلثة التى فى واجهة الكاتدرائيات؟ وإذا تحدثنا الآن عن القصة، فهل يجدر بنا أن نأخذ على التراجيديا التى ظهرت قبل العصر الكلاسيكى أنها نقلت إلى المسحر المسرحيات الريفية الخيالية المعروفة من قبل والتى كان أبطالها رعاة غنم وراعيات؟ أو نأخذ على مدام دى لا فاييت ما تدين به هذه الكاتبة لمسرح راسين؟ إن ما هو صحيح فيما يتعلق بالحرفية هو أكثر صحة أيضاً فيما يتعلق بالموضوعات التي تنتقل فى حرية من خلال وسائل التعبير بالغة التنوع. وهذا موضوع معروف فى تاريخ الأدب حتى القرن الثامن عشر فقط حيث بدأت تظهر فكرة الانتحال والسرقة فى التأليف. وفى القرون الوسطى نجد الموضوعات المسيحية الكبرى ظاهرة فى المسرح، وفى التصوير، وفى التصوير على زجاج الكنائس...الخ.
إن ما قد يخدعنا فى السينما، هو أنه على عكس ما يحدث عادة فى مرحلة تطورية فنية، فإن الاقتباس والنقل، والتقليد، لا يبدو أنها فى أصل الفن وفى أولى مراحله. بل على العكس: إن الاستقلال الذاتى لوسائل التعبير، وابتكار الموضوعات لم يكونا أعظم مما كانا عليه خلال الخمسه والعشرين أو الثلاثين عاما الأولى للسينما وقد نتقبل أن يسعى فن ناشىء إلى تقليد إخوته الكبار، وأن يستخرج بعد ذلك قوانينه وموضوعاته الخاصة رويدا رويدا، ولكن ما لا ندركه تماما هو أن يضع تجربة متزايدة فى التقدم والضخامة فى خدمة أعمال فنية غربية عن مجاله وعبقريته كما لو كانت هذه القدرات فى الاختراع وفى الخلق النوعى عكسية تماما بالنسبة لطاقاته فى التعبير. ومن هنا لم تبق إلا خطوة واحدة لاعتبار هذا التطور الغريب المتناقض نوعا من أنواع التخلف والتراجع، خطوة لم يتردد النقاد جميعهم فى اجتيازها فى بدء السينما الناطقة.
ولكن هذا كان معناه تجاهل المعطيات الأساسية لتاريخ الفيلم: أن نلاحظ أن السينما ظهرت "بعد" القصة أو المسرح، لا يعنى أنها تقف فى الصف بعدهما وعلى نفس المستوى. إن الظاهرة السينمائية لم تتطور أبدا وتتقدم فى الظروف الاجتماعية التى تعيش فيها الفنون التقليدية. كما لو كنا نقول إن الحفلات الراقصة التى يرقص فيها الناس على أنغام الأكورديون فقط أو رقصة الجاز المسماة بى-بوب حفيدان لفن الرقص الكلاسيكى. إن رجال السينما الأوائل قد حصلوا على ثروتهم من الفن الذى كانوا مقبلين على اجتذاب جمهوره و هو السيرك، ومسارح الأسواق والميزويكهول التى ستمد الأفلام، ولا سيما أفلام الكوميديا التهريجية، بالحرفية وبالممثلين ونحن نعرف الكلمة الشهيرة التى نسبت إلى زيكا Zeccaفردينان زيكا مخرج فرنسى (١٩٤٧ – ١٨٦٤ ) عمل منذ سنة ١٩١٠ مديرا عاما للانتاج السينمائي فى شكرة إخوان بانيه. أخرج حوالى مائة من الأفلام الصغيرة التهريجية أو الواقعية، من بينها: قصة جريمة، عاصفة فى غرفة نوم، ضحايا إدمان الخمر حياة مقامر – إلخ (المترجم). وقد اكتشف شخصا اسمه شكسبير، إذ قال: "العجيب أنه قد مر بجانب أشياء جميلة، ذلك الحيوان! لم يكن زيكا وأقرانه ليتأثروا بأدب لا يقرءونه، بل ولا يقرؤ الجمهور الذى يخاطبونه. ومع ذلك فقد تأثروا بالأدب الشعبي لذلك العصر، ذلك الأدب الذى ندين له بفيلم فانتوماس، وهو إحدى روائع الشاشة. وقد أعاد الفيلم خلق ظروف فن شعبى أصيل وعظيم، ولم يحتقر الأشكال المتواضعة والمكروهة التى كانت من سمات مسارح الأسواق أو من سمات القصص الشعبى. والحق أن محاولة قد قامت لتبنى هذا الطفل بواسطة السادة أعطاء المجمع الفرنسىوأعضاء الكوميدى فرانسيز، ولكن فشل الفيلم الفنى كان دليلا على عبث هذه المحاولة غير الطبيعية. إن نكبات أوديب أو نكبات أمير الدامارك كانت فى بداية عهد السينما تشبة كلمة "أجدادنا الغاليين" التى كان يسمعها ويرددها الأطفال الزنوج بمدرسة إبتدائية في أدغال أفريقياكان المتعمرون، عندما يدرسون التاريخ للأطفال الزنوج بأفريقيا يسمون قدماء الفرنسيين اجدادنا سكان بلاد الغال (فرنسا). كذلك لا يهتم المتفرج ذو الثقافة المحدودة الذى كان يكون جمهور السينما فى بداية هذا القرن بما جرى للملك أوديب أو ما جرى للسيد ماكبث الدانماركى، وهم من أهم شخصيات شكسبير. (المترجم) وإذا كنا نجد فيها اليوم متعة وسحرا، فكما نجده فى تلك الأنواع من التمثيل الوهمى الساذج للطقوس الكاثوليكية تقوم بها قبيلة متوحشة قد افترست مبشريها وأكلتهم.
وإذا كانت أعمال النقل الواضحة، (السطو دون خجل على أنواع التكنيك المستعملة فى قاعات الميوزيكهول الأنجلوسكسونية فى هوليوود) نقل ما كان قائما حتى ذلك اليوم فى فرنسا، من مسرح شعبي فى ساحات الأسواق والشوارع، إذا كانت أعمال النقل هذه لم تثر معارضات جمالية؛ فذلك أولا لأنه لم يكن هناك وجود حتى الآن للنقد السينمائى. وذلك أيضا لأن تعديلات هذه الأشكال الفنية التى كانت توصف بأنها هابطة لم تكن تثير أحدا. ولم يكن هناك وجود حتى الآن للنقد السينمائي. وذلك أيضا لأن تعديلات هذه الأشكال الفنية التى كانت توصف بأنها هابطة لم تكن تثير أحدا. ولم يكن أحد يعنى بالدفاع عنها، فيما عدا من يهمهم الأمر وهم الذين كانوا يعرفون مهنتهم، أكثر مما تعنيهم الأوهام المتعلقة بالأفلام.
وعندما تابعت السينما المسرح فعلا، فإنما كان ذلك بإعادة خلق علاقات، مع فئات درامية قد تم التخلى عنها تقريبا، من خلال قرن أو قرنين من التطور هل بفكر نفس المؤرخين العلماء الذين لا يجهلون شيئا عما كانت عليه كوميديا المهزلة فى القرن السادس عشر، فى أنها قد بعثت من جديد فيما بين ١٩١٠ و ١٩١٤ فى استديوهات شركتى باتيه وجومون، وتحت إرشاد وتوجيه ماك سنيت.
وقد لا يبدو من الصعب أن تقوم بنفس التدليل والإثبات فيما يتعلق بالقصة. إن فيلم الحلقات، الذى يقتبس التكتيك المتبع فى القصص الشعبى، يستعيد فعلا البناءات القديمة التى كانت تسير عليها الرواية. لقد شعرت بذلك شخصيا عندما رأيت فيلم "مصاصو الدماء" الذى أخرجه فوياد Feuillade فى حفلة من تلك الحفلات التى يعرف سرها هنرى لانجلوا، وهو مدير المكتبة السينمائية الظريف. كان واحد فقط من جهازي العرض يعمل فى تلك الليلة. وزيادة على ذلك فإن النسخة المعروضة لم تكن تحتوى على ترجمة، وفى ظنى أن فوياد نفسه لم يكن فى وسعه أن يجد فيها سفاحيه. وكانت أنواع الرهان مفتوحة لمعرفة من هم الطيبون ومن م السيئون. إن ما كنا نظنه لصا كان يتضح أنه ضحية ، فى البكرة التالية من الفيلم. وأخيرا فإن الضوء، الذى كان ينير الصالة كل عشر دقائق لإعادة ملء الجهاز ببكرة جديدة من الفيلم، هذا الضوء كان يضاعف الحلقات.
وكان تقديم فيلم فوياد على هذه الصورة يظهر بطريقة ممتازة ماهرة المبدأ الجمالى الذي يشكل سحره و روعته، إن كل وقفة كان يقابلها من المتفرجين آهة تدل على خيبة الأمل، وكل معاودة للعرض كانت تولد أملا فى الرضا والراحة. كانت هذه القصة التى لم يكن الجمهور يفقه فيها شيئا، تفرض نفسها على انتباهه وعلى رغبته عن طريق مقتضيات السر وحدها فقط. لم تكن بالنسبة إليه، وبأية صورة من الصور، حدثا له وجود من قبل، وقصد فيه غلى التجزئة عن طريق الاستراحات، ولكنها كانت خلقا فنيا يتوقف وينقطع بلا مسوغ معقول، كانت منبعا لا ينضب معينه وتوقف مجراه يد خفية بين الحين والحين.
وكان من نتيجة ذلك شعور بالضيق لا يمكن احتماله ناشىء عن كلمة "البقية فى العدد القادم" كما كان من نتيجته ذلك الانتظار المتلهف، ليس لرؤية الحوادث التالية بقدر ما هو انتظار لسرد لا بد أن يسير فى مجراه، انتظار لمعاودة السير فى خلق فنى معلق. أضف غلى هذا أن فوياد نفسه لم يكن يتبع طريقة تختلف عن هذا النهج فى صنع أفلامه. إنه هو أيضا كان يجهل فى كل مرة بقية القصة، ومن ثم فإنه كان يصور اولا فأولا، وفقا لإلهام الصباح، الحلقة التالية. كان المؤلف والمتفرج فى نفس الموقف: موقف الملك وشهرزاد، إن الظلام الذى كان يتجدد فى الصالة كان هو نفس الظلام الذى كان يتجدد فى ألف ليلو و ليلو، إن كلمة "له بقية" التى تقرؤها فى ذيل الروايات المسلسلة حقيقية كما نقرؤها فى الأفلام ذات الحلقات، هذه الصيغة ليست إذن قيدا خارجيا بالنسبة للقصة. لو أن شهرزاد كانت قد قصت كل شيء دفعة واحدة، لكان الملك، وهو لا يقل قسوة عن الجمهور قد قتلها فى فجر أول ليلة من لقائهما. إنهما كليهما محتاجان إلى أن يشعرا بقوة السحر والمتعة بتقطيعه وتوقفه، ومحتاجان إلى أن يتذوقا ذلك الانتظار اللذيذ للمتعة التى تحل محل الحياة اليومية، تلك الحياة اليومية التى ليست الا حلا لاستمرار الحلم.
ونرى إذن أن ما يسمونه صفاء خالصا فى الأفلام السينمائية الأولى لا يقاوم الانتباه إلا قليلا. إن السينما الناطقة لا تعتبر مدخلا لجنة مفقودة كانت تقتضى من شيطان الفن السابع، إذ يكشف عريها، أن يبدأ بتغطية نفسه بالملابس الرثة الممزقة المسروقة. إن السينما لم تخرج على هذا القانون العام. فقد تحملته على طريقتها، الطريقة الوحيدة التى كانت ممكنة بالنسبة لوضعها وظروفها الفنية و الاجتماعية.
ولكننا ندرك جيدا أنه لا يكفى أن نكون قد أثبتنا أن معظم الأفلام الأولى تعتمد على النقل والنهب فى نفس الوقت فى وجود أشكال الاقتباس الحالية. إن المدافع عن "السينما الخالصة" إذا تقهقر من موقفه المعتاد، فى وسعه أيضا أن يدعى أن التبادل بين الفنون يصبح أكثر يسرا إذا تم على مستوى الأشكال الأولية. وقد يكون من الجائز أن كوميديا المهزلة تدين للسينما بشبابها الجديد، ولكن فاعليتها بالذات كانت على الأخص مرئية، وعلى أى حال فإن التقليد عن طريق التمثيل الصامت، وهو نوع من التقاليد البالغة القدم، لم يستمر ويحيا إلا عن طريق كوميديا المهزلة ثم عن طريق اليوزيكهول. وكلما تقدمنا فى تاريخ الأنواع وتدرجها ازدادت الاختلافات حدة و وضوحا، كما يحدث فى التطور الحيوانى عند أطراف الفروع التى نبتت من أصل واحد. فالفاعلية العامة الأصلية قد طورت مظاهر قواها. وهذه القوى مرتبطة منذ الآن بأشكال بالغة الدقة وبالغة التعقيد حتى نستطيع أن نهدمها دون أن نهدم العمل الفنى نفسه. فى وسع جيوتو أن يصور على طريقة المستدير – المنحنى تحت التأثير المباشر لفن النحت المعمارى ولكن رافائيل و فينشى يصوران بطريقة تتعارض مع طريقة ميشيل أنجلو حتى يجعلا من التصوير فنا مستقلا بذاته تمام الاستقلال.
وليس من المؤكد أن هذا الاعتراض فى وسعه أن يقف تماما فى مواجهة مناقشة تفصيلية، كما أنه ليس من المؤكد أن أشكالا متطورة لا تكف عن التأثير كل فى الآخر، ولكن المؤكد هو أن تاريخ الفن يتظور فى اتجاه الاستقلال الذاتى وفى اتجاه النوعية. إن مفهوم الفن الخالص (الشعر الخالص، التصوير الخالص، ....إلخ) لا يخلو من معنى، إنه يرجع إلى حقيقة جمالية من الصعب تعريفها وتحديدها بقدر ما هو من الصعب معارضتها وإنكارها. وعلى أى حال فإذا كان مازال ممكنا الوصول إلى نوع من المزج بين الفنون، كمزج الأنواع فلا ينتج عن هذا أن كل مزج هو مزج موفق ناجح. هناك لقاءات خصبة تضيف إلى الفن مزايا الخالقين، كما أن هناك أنواعا مخلطة من جنسين، لها رونقها ولكنها ضحلة قاحلة، وهناك أخيرا أنواع وحشية من التزاوج التى لا تولد إلا أوهاما. فلنصرف النظر إذن عن الاستدلال بسوابق أصول السينما ولنتناول المشكلة – كما يبدو أنها تعرض لنا اليوم.
وإذا كان النقد يأسف فى أحيان كثيرة على أعمال النقل التى تقوم بها السينما من معين الأدب، فإن وجود التأثير العكسي يعتبر حقا من الحقوق بقدر ما هو موجود واضح جلى. ومن نافلة القول تقريبا أن نؤكد أن القصة المعاصرة ولا سيما القصة الامريكية قد تاثرت بالسينما. وبالطب فلندع جانبا كتبا يظهر فيها النقل المباشر ظهورا مقصودا، ومن ثم أقل دلالة، مثل كتاب "بعيدا عن روى" الذى ألفه ريمون كينو. إن المشكلة هى أن نعرف ما إذا كان فى كتاب مثل دوس باسوسجون دوس باسوس كاتب أمريكي ولد فى شيكاغو عام ١٨٩٦، ألفروايات واقعية و مليئة بالتشاؤم. (المترجم) أو كالدوبلأرسكن كالدويل قصصى أمريكى ولد فى مقاطعة جورجيا سنة ١٩٠٣ وأشهر قصصه "عن طرق التبغ". (المترجم)، أو هيمنجواى، أو مالرو، إذا كان فن هؤلاء يسير على طريقة الحرفية السينمائية. والحقيقة أننا لا نعتقد ذلك إلا فى القليل. لا شك أن الأمر كذلك و كيف يكون غير هذا، ربما ان الوسائل الجديدة للتأثير التى فرضتها الشاشة و الطرق الجديدة، أو الطرق الجديدة لبناءات السرد مثل المونتاج، وربما تكون هذه العناصر كلها قد ساعدت مؤلف القصة فى تجديد أسلوبه الفنى ولكن بالقدر نفسه الذى يعترف به الكاتب أنه استوحى المراجع السينمائية، كما حدث عند دوس باسوس، فإن هذه المراجع تصبح لهذا السبب عرضة للرفض. إنها تضاف فقط إلى مجموعة الوسائل والطرق التى يبنى بها الكاتب عالمه الخاص. وحتى إذا افترضنا أن السينما ق
حولت مجرى القصة تحت تأثير جاذبيتها الجمالية، فإن أثر الفن الجديد لم يتعد فى أكبر الظن الأثر الذى قد أحدثه المسرح على أدب القرن الماضى مثلا: إنه من الجائز أن يكون ثابتا ذلك القانون الذى يؤكد تأثير الفن القريب المسيطر. فبالتأكيد، عند كاتب مثل جراهام جرين، فى وسعنا أن نتصور اكتشاف تشابه لا يرقى إليه الشك. ولكننا إذا نظرنا إليها عن قرب فإننا نلاحظ أن ما يسمى الحرفية السينمائية عند جرين (يجب ألا ننسى أن جرين كان ناقدا سينمئيا لعدة سنوات) هو فى الحقيقة الحرفية التى لا تستعملها السينما بحيث إننا نتساءل دائما عندما نحاول دراسة أسلوب هذا الكتاب من الناحية المرئية، نتساءل لماذا يحرم رجال السينما أنفسهم بغباء من حرفية قد تناسبهم أكبر مناسبة. إن طرافة فيلم مثل فيلم أمل الذى كتبه مالرو، وهى أنه يظهر لنا كيف تصبح السينما ان هى استوحت موضوعاتها من القصص "التى اثرت فيها" السينما، والنتيجة؟ لا شيء سوى أنه يجب علينا بالأحرى أن نعكس النظرية التقليدية وأن نبحث عن تأثير الأدب الحديث فى رجال السينما.
ما الذى تعنيه فعلا كلمة "السينما" فى المشكلة الدقيقة التى تهمنا؟ إذا كانت السينما وسيلة من الوسائل التعبير عن طريق عرض الواقع بواسطة تسجيل الصور فقط، إذا كانت لا شيء سوى رؤية خارجية تتعارض مع ما يقدمه الاستبطان أو التحليل الخيالى الكلاسيكى من موارد، عندئذ يجب ان نلاحظ أن كتاب القصص الأنجلوسكسونيين كانوا قد وجدوا من قبل فى "مذهب السلوك" المبررات السيكولوجية لمثل هذه الحرفية. ولكن مع هذا فإن الناقد الأدبي يكون لنفسه مقدما رأيا خاطئا لا حذر فيه عما تكون السينما ابتداء من تعريف سطحى جدا لحقيقتها و واقعها. وإذا كانت مادتها الأولى هى التصوير الفوتوغرافى فان هذا لا يستتبعه أن الفن السابع قد حكم عليه أساسا بجدل المظاهر وبسيكولوجية السلوك. وإذا كانت مادتها الأولى هى التصوير الفوتوغرافى فان هذا لا يستتبعه أن الفن السابع قد حكم عليه أساسا بجدل المظاهر وبسيكولوجية السلوك. وإذا كان صحيحا أنه لا يستطيع إلا أن يبلغ هدفه من الخارج، فإن لديه ألف طريقة للتأثير فى مظهره ليستبعد منه كل لبس، وأن يجعل هذا المظهر عنواناً "لحقيقة داخلية وحقيقة واحدة". والحق أن صور الشاشة تكون فى أغلبها مطابقة تمام المطابقة لسيكولوجية المسرح أو للقصة التحليلية الكلاسيكية. إن هذه الصور تفترض، علاوة على الذوق العام، علاقة من السببية اللزمة وغير المتداخلة بين العواطف و وسائل إظهارها، إنها تفرض أن كل شىء فى داخل الشعور وأن الشعور من الممكن معرفته.
وإذا كانت كلمة "السينما" تعنى، فى صورة أدق حرفيات السرد الملازمة للمونتاج ولتغيير المنظر، فإن نفس الملاحظات تظل قائمة. إن قصة لدوس باسوس أو لمالرو لا تتعارض مع الأفلام التى ألفناها، أقل مما تتعارض مع قصص كاتب مثل فرومنتان أو بول بورجيه. والحقيقة أن عهد القصة الأمريكية ليس عهد السينما بقدر ما هو نظرة معينة إلى العالم، نظرة قد تكون اتخذت معلوماتها من علاقات الإنسان مع الحضارة الفنية، ولكن السينما نفسها، وهى ثمرة لهذه الحضارة، قد تأثرت بها أقل مما تأثرت بها القصة، بالرغم من الأدلة التى يكون رجل السينما قد قدمها لكاتب القصة.
ولهذا فان السينما، وهى تلجأ إلى معين القصة، لم تستوح غالبا، قد يبدو ذلك منطقيا أعمالا أدبية يريد البعض أن يرى فيها تأثيرها السابق، ولكنها استوحت موضوعاتها، فى هوليوود، من الأدب ذى الطابع الفيكتورى، وفى فرنسا، كان وحيها قصص السادة هنرى بوردو و بيير بنوا، وهنالك أفضل وأسوأ من هذا، عندما يقتبس سينمائي أمريكى عملا من أعمال هيمنجواى وهذا نادر، كما حدث لقصة لمن تدق الأجراس، ويأتى علاجه لاقتباس هذه القصة أسلوب تقليدى يصلح أيضا لأى قصة من قصص المغامرات.
إن كل شىء يحدث إذن كما لو كانت السينما هى المتخلفة خمسين عاما بالنسبة للقصة. وإذا اعتبرنا أن هناك تأثيرا للسينما فى القصة، عندئذ يجب أن نفترض الرجوع إلى صورة تقديرية ليس لها وجود إلا خلف عدسة الناقد البكرة وبالنسبة لوجهة نظره. لو كان الأمر كذلك لكان التأثير تأثير سينما لا وجود لها، تأثير السينما المثالية التى كان القصاص سيصنعها... لو كان رجلا من رجال السينما، لكان التاثير تأثير فن خيالى مازلنا ننتظره ونتمناه.
وعلى أى حال فإن هذا الفرض ليس سخيفا كل السخف أو غير معقول. فلنتذكر ذلك الفرض، على الأقل، كما نتذكر تلك القيم الجمالية التى يتم استبعادها بعد ذلك من المعادلة بعد أن تكون قد ساعدت على حلها. وإذا كان اثر السينما فى القصة الحديثة قد خلق وهما عند بعض العقول الناضجة الناقدة، فإنما ذلك فى الواقع سببه أن القصاص يستعمل اليوم طرقا فنية فى السرد، ولأنه يتخذ الوسائل لإبراز الوقائع، وسائل تكون أوجه الشبه بينها وبين وسائل التعبير فى السينما مؤكدة (سواء كان قد نقلها نقلا مباشرا، أم كان الأم يتعلق، كما نميل إلى الإعتقاد، بنوع من التقارب الجمالى الذي يعكس فى نفس الوقت أشكالا عديدة معاصرة من أشكال التعبير). ولكن فى هذه العملية القائمة على التأثيرات أو اللقاءات تكون القصة هى التى سارت إلى أبعد مدى فى منطق الأسلوب.
إنها هى التى أفادت أدق فائدة من حرفية المونتاج، مثلا، ومن قلب ترتيب الحوادث، إن القصة على الأخص هى التى استطاعت أن ترفع إلى مدلول ميتافيزيقى صادق أثر موضوعية غير إنسانية ويكاد يكون جمادا. أى كاميرا كانت منفصلة عما تصوره فى يوم ما، مثلما كان شعور بطل قصة الغريب التى كتبها ألبير كامو. وفى الحق، فإننا لا نعرف ماذا كانت قصة نقل مانهاتان أو قصة الوضع البشرى ستصبحان مختلفين جد الاختلاف بدون السينما، ولكننا واثقون مع ذلك أن توماس جارنر والمواطن كين ما كان سيكتب لهما الوجود دون جيمس جويس ودوس باسوس. إننا نشهد، فى بداية عهد السينما، زيادة فى عدد الأفلام التى تجرؤ فتستوحى موضوعاتها من أسلوب خيالي، أسلوب مستواه أعلى من مستوى موضوعات الأفلام المألوفه. ومن وجهة النظر هذه، فإن الاعتراف بالنقل ليس له إلا أهمية ثانوية: فأغلب الأفلام التى نفكر فيها حاليا ليست اقتباسات من قصص، ولكن بعض فصول من فيلم بايزا تدين كثيرا لهيمنجواى (المستنقعات) أو إلى ساروبان (نابولى)، أكثر مما يدين فيلم لمن تدق الأجراس الذى اخرجه سام وود، لنصه الأصلى فى القصة. وعلى العكس، فإن فيلم مالرو يشبه ل الشبه بعض فصول من قصته الأمل، وإن أحسن الأفلام الإنجليزية الأخيرة هى اقتباسات من روايات جراهام جرين. والفيلم الذى يبعث على الرضا، فى رأينا، هو ذلك الشريط، الذى أخرج بصورة متواضعة طبقا لقصة صخرة برايتون وقد مر دون أن يشعر به أحد، وذلك فى الوقت الذى كان فيه جون فورد يصل فى فيلم القوة والمجد، ويصوره فى إطار من الفخامة الخادعة. وعلى هذا فإن علينا أن نعرف أولا كيف نرى ما تدين به أحسن الأفلام المعاصرة لرجال القصة المحدثين حتى فى فيلم سارق الدراجات على الأخص، إذ من السهل أن نرى إثباتا لهذه النظرية فى هذا الفيلم بالذات. وعندئذ فإننا بدلا من أن نثور ونغضب على أعمال الاقتباس، سنرى فيها، إن لم يكن ضمانا مؤكدا لتقدم السينما – وهذا مما يؤسف له – فعلى الأقل عاملا محتملا من عوامل تقدمها. وعلى أى حال فالأمر يتعلق بكاتب القصة وقصته لتحديد هذا المصير وتغييره.
وقد يقال لنا: لندع القصص الحديثة ما دامت السينما لا تفعل شيئا سوى أن تجد فيها الثروة التى أعارتها السينما للقصص وقد عادت عليها هذه الثروة متضاعفة مئات المرات، ولكن ما قيمة هذه الحجة عندما يدعى رجل السينما أنه يستلهم كتابات جيد وقصص ستندالستندال كاتب فرنسي (١٧٨٣ – ١٨٤٢) ، كتب بحثا شائقا عن المقارنة بين راسبن وشكسبير، كما كتب قصصا شهيرة أهمها الأحمر والأسود (١٨٣١)، دويربارم (١٨٣٩) اشتهر بتحليل شخصياته وتم تقدير أعماله بعد وفاته بوقت طويل.؟ ولماذا لا يكون الاقتباس من بروستمارسيل بروست كاتب فرنسي (١٨٧١ – ١٩٢٢) ألف قصة ضخمة سيأتى ذكرها فى المجلد الثالث من هذا الكتاب وعنوانها "البحث عن الوقت الضائع" وفيها يتحدث من ذكرياته عن الأشخاص الذين عاشرهم. وقد كان لهذه القصة اثر كبيرلما حوته من تحليل للعواطف والشخصيات. أو من مدام دى لافاييتمدام دى لافاييت كاتبة فرنسية عاشت فى القرن السابع عشر (١٦٣٤ – ١٦٩٣) اشتهرت بقصة طويلة سيكولوجية عنوانها "أميرة كليف". (المترجم)؟.
ولم لا؛ فعلا؟ لقد حلل جاك بورجوا تحليلا ممتازا، فى مقال لمجلة السينما، أوجه الشبه القائم بين قصة البحث عن الوقت الضائع وبين وسائل التعبير السينمائية. والواقع أن العقبات الحقيقية التي يجب التغلب عليها فى افتراض أمثال هذه الاقتباسات ليست عقبات ذات طباع جمالى، إنها لا تتعلق بالسينما كفن وإنما كواقع إجتماعى وصناعى. إن مأساة الإقتباس، هى مأساة التبسيط، وجعل هذه القصص المقتبسه فى متناول العامة. لقد قرأنا فى إحدى لوحات الإعلان فى الأرياف هذا التعريف بفيلم دير بارم عن قصة المغامرات والمبارازات المشهورة أن الحقيقة تخرج أحيانا من أفواه تجار الأفلام الذين لم يقرأوا ستندال. هل سنحكم لهذا السبب على فيلم كريستيان جاك؟ نعم، بالقدر الذى خان فيه أساسيات القصة وبالقدر الذى نعتقد أن هذه الخيانة لم تكن محتمة – كلا إذا اعتبرنا أولا أن هذا الاقتباس على درجة أعلى من المستوى المتوسط للأفلام، وأنه يشكل بعد ذلك على كل حال مدخلا مشوقا لكتابات ستندال وأنه لهذا السبب سيضمن لهذا الكاتب قراء جددا. ومن العبث أن نثور ونغضب لما يحدث للروائع الأدبية من خفض لقدرها عندما تنتقل إلى الشاشة، على الأقل باسم الأدب، لأنه مهما تكن الاقتباسات تقريبية، فإنها لا تسىء إلى الأصل إزاء الأقلية التى تعرفه وتقدره، أما الجهلاء فأحد أمرين: إما أنهم سيكتفون بالفيلم، وهو فى رأيهم لا يختلف عن غيره بكل تأكيد، وإما أنه ستساورهم الرغبة فى معرفة الأصل؛ وهذا كسب للأدب وتدعم هذا اللون من التفكير جميع إحصائيات الطبع التى تسجل إرتفاعا بالغا سريعا فى بيع الأعمال الأدبية بعد اقتباسها فى السينما. كلا وأيم الحق، إن الثقافة عموما والأدب على وجه الخصوص لا يفقدان شيئا من جراء هذه المغامرة.
بقيت السينما وأنا أعتقد فعلا أن هناك ما يدعو للضيق والحزن عندما نرى الطريقة التى يسيرون عليها فى أغلب الأحيان إزاء التراث الأدبى، وما يبعث على الضيق أكثر وأكثر هو احترامنا الواجب للادب، لان رجل السينما من جانبه يفيد كل الفائدة لو أخلص للنص الأدبى وكان أمينا فى نقله إلى القصة، وهى اليوم تحظى بمزيد من التطور و التقدم، وأصبحت تتجه أيضا إلى جمهور مثقف دقيق فى مطالبه، إن القصة تقترح على السينما شخصيات أكثر تعقيدا، وتقترح، فى العلاقات بين الشكل والموضوع، تشديدا و تدقيقا لم تتعود عليهما الشاشة. ومن الواضح أنه إذا كانت المادة التى يجرى إعدادها، والتى يعمل على إعدادها هكذا كتاب السيناريو والمخرجون، إذا كانت هذه المادة مقدما ذات نوع فكري أعلى بكثير من المتوسط السينمائى، فإن هناك وسيلتين جائزتين لاستعمالها: إما أن يصبح هذا الاختلاف فى المستوى وفى المكانة الفنية للأصل مجرد ضمان لنجاح الفيلم، مجرد مورد للأفكار وعلامة على إمتيازه – كما هو الشأن فى فيلم كارمن وفيلم دوبار وفيلم الأبله – وأما أن يبذل رجال السينما جهودهم بأمانة لتحقيق المعادلة التامة (بين القصة والفيلم) ، أن يحاولوا على الأقل، لا أن يستوحوا من الكتاب، ولا أن يقتبسوه فقط ويكيفوه حسب مقتضيات السينما، بل يحاولون أن يترجموه على الشاشة والأمثلة لذلك هى تلك القصص: السيمفونية الريفية، شيطان الجسد، أول صدمة أو يوميات قس فى الأرياف. يجب ألا نرجم ناقلى الصور اللذين "يعدون للسينما، عن طريق التبسيط والاختصار" إن خيانتهم – كما قلنا – خيانة نسبية، والأدب لا يفقد من جرائها شيئا. ولكن مما لا شك فيه أم رجال الفئة الثانية هم الذين ينعقد عليهم أمل السينما. عندما نفتح فتحات السد، فإن المستوى المتوسط الذى يظهر للمياه يكاد لا يرتفع إلا قليلا عن مستوى المياه فى القناة. وعندما يمثلون فيلم مدام بوفارى فى هوليوود، فمهما كان الفارق فى المستوى الجمالي بين فيلم أمريكى متوسط و بين قصة جوستاف فلوبير، فإن النتيجة هى أننا نرى فيلما أمريكيا نمطيا ليس له عيب، على أي حال، إلا أن اسمه مازال هو مدام بوفارى ولا يمكن أن يكون غير هذا إذا واجهنا العمل الأدبي مع الكتلة الهائلة القادرة التى تمثلها الصناعة السينمائية. إن السينما هى التى تضع لكل شىء مستوى. ولكن إذا استطاع رجل السينما، بفضل بعض المساعدات الموفقة التى تهيئها له الظروف، إذا استطاع رجل السينما أن يضع له هدفا معالجة للكتاب بطريقة تختلف عن معالجته لسيناريو عادى، فإن ذلك يكون تقريبا كما لو أن السينما بأكملها ترتفع وتسمو نحو الأدب، وهذا ما حدث فى فيلم مدام بوفارى الذى أخرجه جان رنوار، أو ما حدث فى فيلم نزهة خلوية للكاتب موباسان. وصحيح أن هذين المثالين ليسا جيدين جدا، ليس بسبب نوع الأفلام وامتيازها، ولكن بالذات لأن أمانة رنوار انحصرت فى الإخلاص لروح القصة أكثر بكثير من اهتمامه بنصها و حرفيتها. إن ما يسترعى إنتباهنا فى هذا الإنتاج هو كونه مطابقا بطريقة عجيبة لاستقلال كامل. ولكن ذلك يعود إلى أن رينوار له فى صالحه أنه يتمتع بعبقرية لا تقل عظمة بالتأكيد عن عبقرية فلوبير وموباسان. والظاهرة التى نشهدها عندئذ تشبه الظاهرة المعروفة وهى ترجمة بودلير لقصص إدجار بو.
ومن المؤكد أنه قد يكون من المستحسن أن يتمتع جميع المخرجين بالعبقرية؛ عندئذ يكون فى وسعنا أن نعتقد أن مشكلة الاقتباس لم يعد لها أساس أو وجود. ومن الممتع أن يرى الناقد نفسه وهو يحاسبهم أحيانا على مهارتهم وموهبتهم وهذا يكفى للتدليل على نظريتنا. فليس ممنوعا أن نتصور و نحلم بما كان سيصبح عليه فيلم شيطان الجسد لو أن جان فيجو هو الذى أخرجه، ولكن مع ذلك فلنهنىء أنفسنا بالاقتباس الذى قام به كلود أوتان – لارا لهذه القصة. إن الإخلاص لقصة راديجيه لم يضطر كتاب السيناريو أن يعرضوا علينا شخصيات طريفه فحسب، ومعقدة نسبيا، بل إن هذا الإخلاص قد دفعهم إلى التحرر من المقتضيات الأخلاقية التى يقتضيها العرض السينمائى وأن يقوموا ببعض المجازفات، (وهى مجازفات تم حسبانها بحكمة، ولكن من ذا الذى كان بوسعه أن يلومهم عليها؟).... أن يقوموا ببعض المجازفات إزاء العرف السائد والأفكار القائمة عند الجمهور. إن هذه الأمانة فى النقل قد وسعت الأفق العقلى والخلقى للمتفرجين ومهدت السبيل لأفلام أخرى ممتازة. ومع ذلك، فإن الأمر لا يقف عند هذا الحد، ومن الخطأ أن نعرض الأمانة كما لو كانت رقا لا بد أن يكون سلبيا ومارقا بالنسبة لقوانين جمالية غريبة على هذا المجال. ولا شك أن للقصة وسائلها الخاصة، إن مادتها هى اللغة وليست الصورة، وأثرها الهامس على القارىء المنفرد المعزول ليس هو نفس الأثر الذى للفيلم على الجمهور المحتشد فى القاعات المظلمة. بل إنه لهذا السبب بالذات فإن اختلافات البناءات الجمالية تجعل البحث عن مواطن التقارب والمساواة فى القيمة أمرا دقيقا حساسا، وتتطلب هذه الاختلافات البنائية أيضا مزيدا من الابتكار والخيال من جانب رجل السينما الذى يسعى حقا إلى المشاهة. ونستطيع أن نقرر أن الخلق السينمائى، فى مجال اللغة والأسلوب، يتناسب تناسبا مباشرا مع الأمانة فى النقل. ولنفس الأسباب التى تجعل الترجمة حرفا بحرف لا تساوى شيئا، وإن الترجمة البالغة التحرر تبدو أيضا كريهة غير مقبولة، فإن الاقتباس الجيد عليه أن يتوصل إلى إظهار جوهر النص وجوهر الروح. ولكننا نعرف ما تتطلبه الترجمة الجيدة من معرفة دقيقة عميقة للغة ولروحها التى تميزها. وعلى سبيل المثال، ففى وسعنا أن نعتبر ما يحدثه أسلوب أندريه جيد من أثر، عندما يكتب الأفعال فى الماضى البسيط من أثر من ناحية الأسلوب، فى وسعنا أن نعتبر ذلك أثرا أدبيا خالصا، وأن نرى فيه بالذات أمورا بالغة الدقة ليس فى وسع السينما أن تترجمها. ولكن ليس مؤكدا بصفة قاطعة أن ردولاتوا فى السيمفونية الريفية لم يجد معادلا لهذا عندما قام بإخراج القصة: إن الجليد الذى لا يختفى عن الشاشة محمل برمزية دقيقة عديدة الفوائد تغير الحدث بصفة ما كرة مخادعة، وتصمه إلى حد ما بمعامل أخلاقى مستمر، ربما لا تختلف قيمته كل الاختلاف عن القيمة التى كان يسعى إليها الكاتب باستعماله أزمنة الأفعال استعمالا ملائما مناسبا. ومع ذلك، فإن فكرة إحاطة هذه المغامرة الروحية بالجديد، فكرة تجاهل المظهر الصيفى للمنظر تجاهلا مقصودا حاسما، إن هذه الفكرة تعتبر دورة سينمائية خالصة قد وفق إليها المخرج عن طريق تفهم سليم للنص المنقول. أما مثال بريسون فى يوميات قس فى الأرياف فإنه مقنع أكثر وأكثر. إن اقتباسه يصل إلى أمانة مذهلة؛ وذلك عن طريق إحترام النص، رغم أنه مع ذلك لا ينقصه الخلق والإبداع. ولقد كان ألبير بيجان على حق عندما ذكر أن العنف الذى يميز برناسوس لن يكون له قط نفس القيمة فى الأدب وفى السينما. إن الشاشة تستعمل هذا العنف بطريقة معتادة متكررة إلى درجة أن العنف يبدو فى السينما شيطانيا على صورة ما، وأنه فى نفس الوقت مثير وتقليدى. كانت الأمانة الحقيقية لنغمة مؤلف القصة تقتضى إذن نوعا من العكس فى تصوير عنف النص، كانت الأمانة الحقيقية لنغمة مؤلف القصة تقتضى إذا نوعا من العكس فى تصوير عنف النص، كانت الأمانة الحقيقية فى تصوير هذه المبالغة التى تميز أسلوب برنانوس هى الحذف والاختصار المعبر الذى يميز سيناريو روبير بريسون.
وكلما كانت الصفات الأدبية للنص هامة وحاسمة، قلب الاقتباس توازن هذا النص، وتطلب أيضا مهارة خلاقة لإعادة البناء طبقا لتوازن جديد، توازن ليس مماثلا مشابها وصورة طبق الأصل، ولكنه متساو مع التوازن القديم. إن إعتبار اقتباس القصص تمرينا كسولا ليس للسينما الحقيقية، "للسينما الخالصة" أن تكسب منه شيئا، إن إعتبار الاقتباس هكذا هو إذن نوع من المغالطة الحرجة التى كذبتها جميع الاقتباسات ذات القدر والقيمة والذين يهتمون أقل اهتمام بالأمانة باسم ما يدعون أنه مقتضيات الشاشة إنما هم الذين يخوضون الأدب والسينما معا.
ولكن الإثبات الأكثر إقناعا لهذا التناقض قد قدمته منذ بضع سنوات مجموعة لاقتباسات المسرحية بأكملها. وقد جاءت تثبت، بالرغم من تنوع الأصول والأساليب، جاءت تثبت نسبية الفكرة القديمة السائدة فى النقد ضد "المسرح المصور فى فيلم". وبدون أن تحلل فى الوقت الحاضر الأساليب الجمالية لهذا التطور، فقد يكفى أن نلاحظ أن هذا التطور يرجع إلى حد بعيد إلى تقدم حاسم حققته لغة الشاشة. فالأمانة الناجحة الفعالة لمخرج مثل كوكتو أو مخرج مثل ويلر ليست بالتأكيد نتيجة لتخلف أو نكوص، بل هى على العكس مظهر لتقدم الإدراك السينمائى. وسواء أكانت كما حدث لمؤلف الأقرباء المخيفون، سهولة الحركة البالغة الحصافة للكاميرا، أو عند ويلر الدقة البالغة فى التقطيع، وتجريد التصوير إلى أقصى حد ممكن، واستخدام اللقطة الثابتة وعمق المجال، فإن النجاح أساسه دائما سيطرة فريدة لا نظير لها، وعلاوة على ذلك، فإن هذا النجاح ناتج عن ابتكار فى التعبير هو العكس تماما لتسجيل سلبى لما يعرض على المسرح. لا يكفى فقط، لاحترام المسرح، أن نصوره. إن "عمل المسرح" بطريقة لها قيمتها هو أشق واصعب من "عمل سينما" ، وهذا العمل الأخبر هو ما قد عنى به حتى ذلك الوقت معظم المقتبسين. توجد سينما، ومن خير أنواع السينما، فى لقطة ثابتة من فيلم الثعالب الصغيرة أو من فيلم ماكبث أكثر مائة مرة مما يوجد فى كل لقطات تتحرك فيها الكاميرا مبتعدة عن الموضوع، ومما فى كل المناظر الطبيعية، ومما فى ما يظهر من طرافة جغرافية للبلاد النائية، وأكثر مما فى كل خلفيات المناظر التى حاولت الشاشة عن طريقها حتى الآن وعبثا ودون جدوى أن تجعلنا ننسى خشبة المسرح. إن غزو السينما لقائمة المسرحيات بعيد عن أن يكون علامة من علامات التخلف والانهيار، إنما هو على العكس دليل من أدلة النضج والاستواء. وأخيرا فأن نقتبس لم يعد معناه أننا نخون، بل معناه أننا نحترم. وإذا اتخذنا مثالا إحدى المقارنات المناسبة فى النطاق المادى: كان يجب حتى نصل إلى هذه الأمانة الجمالية السامية أن يقوم التعبير السينمائى بأنواع من التقدم تشبه ما قام به علم الضوء والتصوير. إن المسافة بين الفيلم الفنى إلى فيلم هاملت هى المسافة بين المكثف البدائى الذى كان فى الفانوس السحرى إلى اللعب المعقد بالعدسات فى آلة تصوير حديثة. إن تعقيدها الباهر العظيم ليس له مع ذلك أى هدف آخر سوى تعويض أنواع التشويه، والزيغ البصرى، وانكسار الصوء، والانعكاسات التى يكون الزجاج مسئولا عن حدوثها، أى إن تعقيدها ليس له من هدف سوى أن يجعل الحجرة السوداءالمكان الذى يوضع فيه الفيلم الخام بداخل الكاميرا موضوعية إلى أبعد حد ممكن. كان انتقال عمل مسرحى إلى الشاشة يتطلب على المستوى الجمالى معرفة للأمانة يمكن مقارنتها بمعرفة مدير التصوير للشىء الذى عليه أن يعده للتصوير الفوتوغرافى. إن هذه المعرفة هى نهاية لتقدم وبداية لنهضة. وإذا كانت السينما اليوم قادرة على أن تقتحم، بطريقة ناجحة، المجال القصصى والمسرحى، فإنما ذلك أولا لأنها واثقة من نفسها ومسيطرة على وسائلها بالقدر الذى يجعلها تخفى نفسها وتمحو وجودها أمام ما تصوره. ذلك لأنها تستطيع أخيرا أن تدعى الأمانة – ليس ذلك النوع من الأمانة الوهمية التى تستخدم فى نقل الصور الملونة على الخزف أو الزجاج – إنما تلك الأمانة التى تقوم على إدراك دقيق لبناءاتها الجمالية الخاصة، وهى شرط سابق ولازم لاحترام الأعمال الأدبية التى تقوم السينما باستغلالها. وبدلا من أن يكون من شأن تزايد اقتباس التحف الفنية الى لا صلو لها بالسينما أن تخيف الناقد الذى يهتم بصفاء الفن السابع، فإنها على العكس تعد ضمانا لتقدمه.
وقد يقول أيضا من يهزهم الحنين إلى سينما مستقلة، نوعية، ذاتيتها خالصة من كل حل وسيط، سيقول هؤلاء: "ولكن لماذا نضع كل هذا الفن فى خدمة قضية ليست فى حاجة إليه، ولماذا نغير معالم القصص على حين نستطيع أن نقرأ الكتاب ونغير معالم مسرحية فيدرا، فى حين يكفى أن يذهب المرء إلى مسرح الكوميدى فرانسيز؟ ومهما يكن الاقتباس باعثا على الرضا، فإنكم لن تحاولوا إثبات أنها تفوق النص، ولا أنها تفوق فيلما يساويها من حيث امتيازه الفنى ويكون ذا موضع سينمائي خالص غير مقتبس: إنكم تقولون: شيطان الجسد، اليقظة الأولى من الوهم، الأقرباء المخيفون هاملت ليكن.. وأنا أواجهكم بأفلام مثل البحث عن الذهب، المدرعة بوتمكين، الزنبقة المحطمة، ذو الوجه المجروح، الجولة العجيبة، أو حتى المواطين كين، وهى روائع لم تكن لتوجد لولا السينما وهى ثروة لا يمكن أن يحل محلها شىء فى التراث الفنى. وحتى لو لم تعد أحسن الاقتباسات خيانة ساذجة أو دعارة لا تليقفمما لاشك فيه أن فى هذا مهارة تضل وتذهب إلى ضياع تقولون أيضا إنه تقدم ولكنه تقدم لن يكون مصيره مع الوقت إلا أن يجفف عود السينما ويجعل أرضها قاحلة إذ يحكم عليها ألا تكون إلا ملحقا إضافيا للأدب: أعيدوا إلى المسرح وإلى القصة ما يستحقان، وأعيدوا إلى السينما ما سيظل إلى الأبد للسينما.
وقد يكون هذا الاعتراض الأخير مقبولا من الناحية النظرية لو لم يكن يهمل النسبية التاريخية التى يجب وضعها موضع الاعتبار فى فن هو الآن فى أوج تطوره. ومن المؤكد أن السيناريو الذى يكتب خصيصا للسينما له الأفضلية على الاقتباس علاوة على أنه له صفة متساوية فى الحالتين ولا أحد يفكر فى معارضة هذا الأمر. وإذا كان شارلي شابلن هو "موليير السينما" فإننا لا نضحى بفيلم مسيو فيردو فى سبيل اقتباس لمسرحية عدو البشر Le Misanthrope لنتمن إذن أن يكون لنا إلى أكبر حد ممكن أفلام مثل النهار يبزغ، وقواعد اللعب أو أجمل سنوات حياتنا. ولكن هذه هى أمانى افلاطونية ونظرات عقلية لا تغير شيئا فيما يتعلق بتطور السينما. وإذا كانت السينما تلجأ، ممعنة فى هذا الالتجاء، إلى الأدب (بل وحتى إلى التصوير وإلى الصحافة)، فإن ذلك إنما هو واقع لا نستطيع فى النادر إلا تسجيله ومحاولة فهمه، لأن كل الظروف تثبت أننا لا نستطيع التأثير فيه والسيطرة عليه. وفى مثل هذه الظروف، إذا كان الأمر الواقع لا يخلق الحق بصفة مطلقة فإنه على الأقل يتطلب من الناقد حكما مسبقا مؤيدا وفى صالحه. ولنقلها مرة أخرى، علينا ألا تخدعنا هنا المشابهة القائمة بين السينما وبين الفنون الأخرى، لا سيما الفنون التى جعله تطورها نحو اتجاه يميل إلى الفردية، مستقلة تقريبا عن متطلبات المستهلك. لقد استطاع لوتريامون Lautreamont وفان جوخ Van Gogh أن يخلقا، وهما اللذان لم يفهمهما عصرهما بل وتجاهلهما. إن السينما لا تستطيع أن يكون لها وجود دون حد أدنى (وهذا الحد الأدنى ضخم كبير) من جمهور المشاهدين. وحتى عندما يواجه رجل السينما ذوق الجمهور، فإن جرأته لا تكون لها قيمة إلا بالقدر الذى يكون ممكنا تقبل الفكرة الآتية، وهى أن المتفرج هو الذى يخطىء فى حق ما يجب عليه أن يتذوقه وما سيتذوقه يوما ما. والمقارنة الوحيدة المعاصرة الممكنة قد تكون مع فن المعمار، لأن المنزل لا يعنى شيئا إلا أن يكون صالحا للسكنى. والسينما هى أيضا فن وظيفى. وإذا أتخذنا وسيلة أخرى للمقارنة مرجعا، فإن علينا أن نقول عن السينما إن وجودها يسبق جوهرها. من هذا الوجود يجب على النقد أن يبدأ، حتى فى استنباطاته القائمة على القياس، مهما تكن غرابتها وإمعانها. وكما يحدث فى التاريخ وبنفس التحفظات تقريبا، فإن ملاحظة تغيير ما، يفوق الحقيقة ويضع حكما له قيمته. وهذا ما لم يتقبله أولئك الذين لعنوا السينما الناطقة فى بدأ نشأتها، فى الوقت الذى كان لها على الفن الصامت تلك الميزة التى لا مثيل لها وهى أنها ستحل محله.
وحتى لو لم تبد للقارىء هذه النظرية العملية فى النقد قائمة على أسس كافية، فإنه على الأقل سيتقبل أن هذه النظرية تبرر ذلك التواضع وذلك الحذر المنهجى أمام أية علامة من علامات تطور السينما، إن التواضع والحذر قد يكونان كافيين لإدخال محاولة التفسير التى نود أن نختم بها هذا المقال.
إن الروائع التى نرجع إليها عادة كمثال للسينما الحقيقية – السينما التى لا تدين بأي شيء للمسرح أو الأدب، لأنها عرفت كيف تستكشف موضوعات ولغة خاصة بها – هذه الروائع ربما تكون عظيمة بقدر ما هى مستحيلة التقليد، وإذا كانت السينما السوفيتية لم تعد تعطينا فيلما فى مستوى المدرعة بوتمكين، وإذا لم تعد هوليوود تعطينا فيلما فى مستوى فيلم فجر، أو فيلم هاليلويا، أو فيلم ذو الوجه المجروح، أو فيلم نيويورك ميامى أو حتى فيلم الجولة العجيبة فإن ذلك ليس لأن الجيل الجديد من المخرجين يقل مستواه عن الجيل القديم، وعلى كل حال، فإن الأمر يتعلق إلى حد كبير بنفس الرجال، بل إننا نعتقد ان السبب فى ذلك ليس أن العوامل الاقتصادية أو السياسية التى تسيطر على الإنتاج قد جعلت وحيهم ينضب ويصبح قاحلا. بل إن السبب بالأحرى هو أن العبقرية والموهبة ظاهرتان نسبيتان، وأنهما لا تتطوران وتتقدمان إلا طبقا لظروف تاريخية وقد يكون مبالغة فى السهولة أن تفسر فشل فولتير فى المسرح بقولنا إن هذا الكاتب لم يكن له فكر تراجيدي، إن عصره هو الذى لم يكن تراجيديا. ولقد كانت محاولة مد تراجيديا راسين فى هذا العصر (القرن الثامن عشر) محاولة غير ملائمة، وتتعارض مع طبيعة الأشياء. إن التساؤل عما كان سيكتبه مؤلف فيدرا فى سنة ١٧٤٠ أمر لا معنى له، لأن ما نسميه راسين ليس رجلا يناسب هذا الوصف، ولكنه "الشاعر الذى – كتب – فيدرا". إن راسين بدون فيدرا هو شخص مجهول لا يحمل اسما أو هو نظرة من نظرات الروح. كما أنه من العبث فى السينما أن نأسف لأننا ليس لدينا اليوم شخص مثل ماك سينيت ليواصل كوميدياته التقليدية العظيمة. إن عبقرية ملك سينيت هى أنه صنع أفلاما من الكوميديا التهريجية فى الوقت الذى كان فيه هذا النوع من الكوميديا جائزا. وعلى أي حال فإن نوع إنتاج ماك سينيت قد مات قبله، والبعض من تلاميذه ما زالوا حتى اليوم أحياء. هارولد لويد وبوستر كيتون مثلا، اللذان لم تكن فترات ظهورهما القليلة النادرة منذ خمسة عشر عاما إلا إستعراضات أليمة لم يكن فيها أي شيء من آثار الأيام الغابرة. إن شابلن وحده، وذلك لأن عبقريته هى شىء فريد حقا، هو الذى امكنه أن يصمد لمدة ثلث قرن من تاريخ السينما. ولكن فى مقابل أى أنواع من التحولات و التغييرات ومقابل أى تجديد كامل أجراه فى إلهامه، ومقابل أى تحول فى أسلوبه، وحتى فى شخصيته؟ إننا نلاحظ هنا بصورة جليلة تلك السرعة الغريبة فى الاستمرار الجمالى الذى يميز السينما. ولقد يعيد الكاتب نفسه، فى الموضوع وفى الشكل، لمدة نصف قرن من الزمان. أما موهبة رجل السينما، إذا لم يمكن يعرف كيف يتطور بفنه فإنها لا تستمر أكثر من خمس أو عشر سنوات، ولهذا فإن العبقرية، وهى أقل مرونة وأقل شعورا بنفسها من الموهبة، تصادفها غالبا أنواع عجيبة من الفشل: مثال ذلك عبقرية شتروهيم، وآبل جانس وبودوفكين.
ومن المؤكد أن أسباب هذه الخلافات العميقة بين الفنان وفنه – وهى التى تبعث الشيب بقسوة فى العبقرية وتؤدى بها إلى الا تكون سوى مجموعة من أنواع الهوس ومن جنون العظمة التى لا فائدة منها - ، إن هذه الأسباب عديدة ولن نحللها هنا. ولكننا نود أن نذكر واحدا يهم هدفنا بصفة مباشرة.
حتى عام ١٩٣٨ تقريبا، كانت السينما، (بالأبيض والأسود) فى تقدم مستمر؛ تقدم فنى أولا (إضاءة صناعية، فيلم حساس، حركة الكاميرا، إضافة الصوت)، ونتيجة لذلك ثروة فى وسائل التعبير (لقطة كبيرة، مونتاج، مونتاج متواز، مونتاج شريع تصوير جزء من الإطار، طبع مزدوج للصور إلخ). وإلى جانب هذا التطور السريع فى اللغة السينمائية، وفى جو من التعاون الدقيق فيما بينهم، اكتشف رجال السينما الموضوعات الجديدة التى كان الفن الجديد يعطيها شكلا وإطارا. إن هذه الجملة: "أما هذا فهو سينما"! لا تعنى شيئا آخر سوى هذه الظاهرة التى سيطرت على السنوات الثلاثين الأولى من الفيلم كفن: هذا التناسق العجيب بين حرفية جديدة ورسالة لا مثيل لها. ولقد اتخذت هذه الظاهرة أشكالا متعددة: الممثل النجم إعادة التقرير، نهضة الملحمة، ونهضة الكوميديا دلارتى، ... إلخ. ولكن هذه الظاهرة كانت تخضع بصورة وثيقة للتقدم الفنى، وتجديد التعبير هو الذى كان يمهد الطريق للموضوعات الجديدة. وخلال ثلاثين عاما اختلط تاريخ الحرفية السينمائية، فى معناه الواسع، بصورة عملية، مع تاريخ السيناريوهات. إن كبار المخرجين يكونون أولا مبتدعى أشكال، أو إذا شئنا، يكونون علماء بيان وبلاغة، وهذا لا يعنى أبدا أنهم كانوا من المنادين بنظرية الفن للفن، ولكنهم كانوا فقط مدركين أنه، فى الجدال القائم بين الشكل والموضوع، وكان الشكل فى ذلك الوقت هو الذى له فصل الخطاب بالطريقة التى قلب بها المنظور أو التلوين بالزيت عالم التصوير رأسا على عقب. ويكفينا أن نعود إلى الوراء عشر سنوات أو خمس عشرة سنة لنميز العلامات الواضحة نقدم ما كان يعتبر من مستلزمات الفن السينمائي. لقد أشرنا إلى الموت السريع لبعض الأنواع السينمائية التى كانت لها مكانتها مع ذلك، مثل كوميديا التهريج، ولكن مثال الذى له أكبر دلالة إنما هو مثال النجم. يحظى بعض الممثلين دائما بالكسب التجارى من جانب الجمهور، ولكن هذا الوله ليس له أية علاقة بظاهرة الميل الاجتماعى المقدسة التى كان رودلف فالنتينو أو جريتها جاربو سنميها الذهبيين.
كل شىء يسير إذن كما لو أن الناحية التى تتعلق بالتأليف وبالموضوعات قد استنفدت ما كان فى وسعها أن نتوقعه من ناحية الحرفية والصناعة. لم يعد يكفى اختراع المونتاج السريع أو تغيير أسلوب التصوير للتأثير فى المتفرج، فإن السينما قد دخلت لا شعوريا إلى عصر السيناريو، وهذا يعني: انقلابا فى العلاقة بين الموضوع والشكل. ليس أن الشكل سيصبح لا أهمية له، بل على العكس تماما. فهو لم يكن قط خاضعا مثل هذا الخضوع للمادة، ولم يكن قط اكثر ضرورة، ولم يكن أكثر دقة، ولكن كل هذا العلم يتجه إلى الاختفاء وإلى الشفافية أمام موضوع نقدره اليوم فى حد ذاته، ويزيد اختيارنا له تشددا ودقة. فالسينما شأنها فى ذلك شأن تلك الأنهار التى حفرت مجراها بصفة نهائية والتى لم تعد لديها القوة إلا فى توصيل مياهها إلى البحر دون أن تنتزع ذرة من الرمال من شواطئها، السينما تقترب من جوانب توازنها. لقد ولى الزمن الذى كان يكفى فيه "عمل سينما" ليحتسب الفنان ضمن الخالقين للفن السابع. وإلى أن يعيد اللون أو البروز الأولوية والأهمية للشكل بصفة مؤقتة، وإلى أن يخلقا مرحلة جديدة من مراحل النضج الجمالى، فإن السينما ليس فى وسعها أن تغزو أى نطاق من حيث السطح. بل إنه ما زال عليها أن تروى شطآنها، وأن تتسلل بين الفنون التى حفرت فيها بمثل هذه السرعة مسالكها وطرقها، وأن تغزو مجال هذه الفنون مخانلة وخداعا، أن تنفذ إلى باطن التربة لتشق فيها ممرات غير مرئية. وربما يحين الوقت الذى تنبثق فيه عيون المياه، أى إنه سيجىء عهد سينما قد تحررت من جديد واستقلت عن القصة والمسرح، بل إنه ربما سيحدث ذلك لأن القصص ستكتب مباشرة فى صورة أفلام. وإلى أن يعيد جدل تاريخ الفن للسينما هذه الذاتية التى تتمناها وتفترضها، فإن هذا الفن يستوعب رأس المال الضخم من الموضوعات المعدة والتى كدستها حوله الفنون الأخرى المجاورة على مر العصور وهو يستحوذ على رأس المال هذا لأنه محتاج إليه، ولأننا نشعر بالرغبة فى أن هذه الفنون الأخرى من خلال السينما.
وعندما تقوم السينما بهذا الأمر فإنها لا تحل محل تلك الفنون، بل على العكس.
إن نجاح المسرح المصور فيلما يخدم المسرح – كما يخدم اقتباس القصة الأدب. إن مسرحية هاملت على الشاشة ليس من شأنها إلا أن توسع نطاق جمهور شكسبير، وهو جمهور لا شك أن جزءا منه على الأقل ستراوده الرغبة فى أن يذهب إلى المسرح ليسمع. إن قصة يوميات قس فى الأرياف كما رآها المخرج روبير بريون، هذه القصة ضاعفت عشر مرات عدد قراء برنانوس. وفى الحق أنه لا توجد منافسة وإحلال، وإنما ضم وإضافة لبعد جديد كانت الفنون قد فقدته تدريجيا منذ عصر النهضة. وهذا البعد هو الجمهور.
ومن ذا الذى يشكو من هذا الأمر؟
إضافة تعليق جديد