قالب جديد من الدراما الپوليسية: المغامرة الإجرامية

ترجمة
نرمين نزار

في هذا المقال من سنة ١٩٤٦ يسبق فرانك غيره إلى ملاحظة اتجاه معين في السينما الأمريكية يستخدم لوصفه كلمة نُوار أو أسود لتصبح اسما لنوع فيلمي أساسي، ويتنبأ بصعود جيل من المخرجين الفرنسيين متأثر بهذه السينما التجارية على حساب سينما بلده الكلاسيكية.

ها نحن بعد مرور عام على توالي أفلام أمريكية متدنية الجودة جعلت هوليوود تبدو وكأنها قد انتهت. واليوم نحتاج إلى استنتاج جديد، لأن ظهور نصف دزينة من الأعمال الممتازة المصنوعة في كاليفورنيا يجبرنا على كتابة وتأكيد أن السينما الأمريكية في أحسن أحوالها على الإطلاق. إن صناع أفلامنا مصابون بالهوس الاكتئابي بشكل قاطع.

هناك سبعة أفلام أمريكية جديدة متقنة بشكل خاص: «المواطن كاين» Citizen Kane، «الثعالب الصغيرة» The Little Foxes، «كم كان واديَّ أخضر» How Green Was My Valley، بالإضافة إلى «تعويض مزدوج» Double Indemnity و«لورا» ​Laura​، وإلى حد ما «الصقر المالطي» ​The Maltese Falcon​and و«القتل يا حلوتي» Murder, My Sweet. الأفلام الثلاثة الأولى استثنائية؛ ولكن ليس بوسعنا أن نضعها في الاعتبار إذا أردنا التركيز على الإنتاج الهوليوودي النمطي. دعونا بدلا من ذلك نفحص الأفلام الأربعة الأخرى.

إنها تنتمي إلى فئة اعتدنا تسميتها أفلام الجريمة، ولكن الأمثل وصفها من هذه اللحظة فصاعدا باصطلاح من قبيل ’المغامرة الإجرامية‘، بل من قبيل أفلام علم نفس الجريمة، وهو أفضل وأفضل. وهذه فئة رئيسية من الأفلام احتلت مكانة أفلام الغرب الأمريكي (الويسترن): وهناك استنتاجات ساخرة يمكن استلهامها من إحلال ديناميكية الموت العنيف والألغاز القاتمة على الشاشة محل ديناميكية الشاشة التي تقتضي مطاردات على ظهور الخيل وأجواء هانئة في عربات الأحصنة، وكذلك التغير الذي طرأ في الخلفية من معالجة رحبة وروائية للطبيعة إلى نظام اجتماعي ’فانتازي‘.

لقد تغيرت هذه الشاكلة من الأفلام تغيرا ملحوظا الآن في الولايات المتحدة سيرا على درب الأدب الرائج عندما أفسح س.س. ڤان داين S.S. Van Dine موقع الصدارة لداشييل هاميت Dashiell Hammett. لقد أصبحنا معتادين، منذ پو Poe، ومنذ جابوريو Gaboriau، ومنذ كونن دويل Conan Doyle على وصفة قصص التحرّيّين: جريمة غير محلولة، بعض المشتبه بهم، وفي النهاية اكتشاف الطرف المذنب بفضل دأب مراقب خبير. لطالما أجيدت هذه الوصفة: حلت روايات (وأفلام) التحرّي محل الكلمات المتقاطعة يوم الأحد وخيّم عليها عليها التكرار الممل. لا أعرف أي متنور مخلص لهذا النوع الفني يعجز في هذه الأيام عن فك عُقَد اللغز من الخمسين صفحة الأولى أو أول بكرتين من الفيلم…

كانت هذه الإعاقة أشد في الأفلام. المشكلة الأولى: توضيحات مطولة ترِد في نهاية السرد، في نفس اللحظة التي لا يعود فيها الفيلم، وقد انتهت أحداثه المثيرة، مثيرا لاهتمام المشاهد. مشكلة أخرى: إذا تسنى لأغلب الشخصيات أن تكون حية ومفعمة بالخيال، فإن البطل - أي المحقق - كان مجرد آلة مفكرة، وحتى في أفضل الظروف (كما في حالة ميجريه Maigret [بطل روايات سيمنون Simenon]) فهو آلة تفكير تسحب الدخان وتحشو غليونها. ومن شأن المشاهد أن يتطلع في المناظر، أو يتطلع إلى لحظة خفة، أو إلى مزيد من الجرائم، إلى أي شيء يثير اهتمام المرء.

نحن نشهد موت هذه الوصفة. من بين الأعمال الأربعة المذكورة آنفا، ينتمي «لورا» فقط إلى هذا النوع الذي عفا عليه الزمن؛ لكن أوتو پريمنغر Otto Preminger ومعاونيه أجبروا أنفسهم على تجديد الوصفة بتقديم دراسة ساحرة للديكورات والوجوه، وسرد معقد، وكاتب غريب الأطوار عديم الإبداع لكنه مسلٍّ، وفي الصدارة محقق له حياة عاطفية. وباختصار، فالنتيجة هي فيلم يفتقد إلى الأصالة لكنه ترفيهي بامتياز، وكما يجوز للمرء أن يضيف، ناجح.

بالنسبة إلى الأفلام الثلاثة الأخرى، فإن الطريقة مختلفة. إنها تمثل بالنسبة لدراما الجريمة التقليدية ما تمثله روايات داشييل هاميت مقابل روايات ڤان داين أو إليري كوين Ellery Queen. إنها كما يمكننا القول ’مخلصة لواقع الحياة‘. فالمحقق ليس آلية وإنما الشخصية الرئيسية، أي الشخصية الأهم لنا: وتماشيا مع ذلك فإن بطلي «الصقر المالطي» و«القتل يا حلوتي» يزاولان هذه المهنة الغريبة مهنة المحقق الخاص، والتي لا علاقة لها (في الولايات المتحدة) بالوظيفة البيروقراطية، بل تضعهما، بحكم التعريف، على هامش القانون – القانون كما تمثله الشرطة ومواثيق رجال العصابات بالمثل. لم يعد السؤال الجوهري هو "من الجاني؟" ولكن كيف يتصرف هذا البطل؟ ليس مطلوبا حتى أن تفهم جميع تقلبات الأحداث التي يتورط فيها (لن أتمكن أبدا من تلخيص تتابع الأحداث التي يتألف منها الفيلمان بشكل متماسك)، وإنما تكفيك نفسيتاهما الملتبستان، والواحد منهما صديق وعدو في آن. والأبرز من ذلك أنه لا اللكمة في الوجه ولا طلقة الرصاص تلعب دورا رئيسيا حتى النهاية. ولا يمكن أن يكون من باب الصدفة انتهاء الفيلمين على النحو نفسه، بدفع البطلات الثمن كاملا بأكثر الطرق قسوة في العالم. هذه المشاهد الختامية قاسية وذكورية، على غرار أغلب الأدب الأمريكي المعاصر.

لا يمكنني أن أتمادى لأقول أن هذه الأفلام ناجحة نجاحا تاما. فبينما «الصقر المالطي» مثير فعلا (وهو مأخوذ عن رواية لداشييل هاميت)، فإن «القتل يا حلوتي» متذبذب المستوى وفي أحيان أجوف (بالرغم من السمعة الرائعة لرواية رايموند تشاندلر Raymond Chandler التي اقتبُس منها الفيلم).

نعيد اكتشاف هذه القسوة، هذه الذكورية، في «الضمان المزدوج». ليس ثمة غموض هنا، فنحن نعرف كل شيء منذ البداية، ونتابع الإعداد للجريمة، وتنفيذها، وأعقابها (تماما كما هو الحال في «الشك» ​Suspicion​ الذي اقتبسه ألفريد هتشكوك من رواية مميزة لفرانسيس إيلس Francis Iles، بمعالجة غير موفقة). وبالتالي فإن إهتمامنا منصب على الشخصيات، ويتطور السرد بوضوح أخاذ يحافَظ عليه من البداية إلى النهاية. ذلك لأن المخرج، بيلي وايلدر، فعل أكثر من مجرد تحويل البناء السردي الذي قدمته رواية جيمس كين James Cain التي اقتُبس منها الفيلم. لقد بدأ بخلق سيناريو دقيق ومحكم بشكل قاطع مانع، بالتعاون مع رايموند تشاندلر، يفصّل برشاقة دوافع وردود أفعال شخصياته. وإخراج الفيلم ترجمة مخلصة لهذا السيناريو.

وعلى هذا النحو، لا تبقى أي أرضية مشتركة بين هذه الأفلام ’السوداء‘ noir وغثاء السيل من الأعمال الدرامية الپوليسية. للحبكات ذات الطابع النفسي البارز، والأحداث العنيفة أو العاطفية، وقعٌ أهون من تعبيرات الوجه، والإيماءات، والمنطوقات – المترجمة لحقيقة الشخصيات، ذلك ’البعد الثالث‘ الذي سبق أن تحدثت عنه. هذا تحسن كبير: بعد أفلام كهذه تبدو الشخصيات في الأفلام الپوليسية المعتادة أشبه بدمى الأزياء. لا شيء لافت في أن مشاهدي اليوم أكثر استجابة لبصمة الصدق الفني، بصمة ’الإخلاص لواقع الحياة‘، وأيضا، ولم لا، للفظاعات الشنيعة الموجودة في الحياة بالفعل والتي لم يخدم التستر عليها في الماضي أي هدف: إن النضال من أجل البقاء ليس قصة جديدة.

 

يتزامن مع هذا التطور الداخلي تغير آخر، شكلي صرف، في الأسلوب الشرحي، فيسمح تدخل الراوي أو المعلق بتشظي السرد، للتخفف بسرعة من عناصر الحبكة التقليدية وإبراز الجانب 'الصادق' ’المخلص لواقع الحياة‘. ومن الواضح أن هذا النهج يسمح للقصة بأن تصبح ملتزمة على نحو حثيث، ولكنه يسمح أيضا بإدخال عنصر ديناميكي إلى تصوير نفسي سيكون راكدا بدونه.

كان ساشا غيتري Sacha Guitry أول من أستغل هذا التكنيك في «قصة غشاش» Le Roman d’un Tricheur. كما استخدمه صناع الأفلام التي ذكرتها (باستثناء «الصقر المالطي») وكشف على السواء عن مرونته وتعزيزه لإمكانية إضافة طبقة أعمق للأسلوب السردي. ولزام علي أن ألاحظ، بالرغم من ذلك، أن پريمينغر في فيلم «لورا» يشرح القصة في البداية على لسان شخصية يتعذر عليها معرفة الأحداث التالية أو، كما يملي المنطق، خاتمتها.

هل فاقت هوليوود پاريس في المستوى بصورة نهائية؟

يبدو لي أننا لا يجب أن ننزلق ونقفز إلى هذا الاستنتاج. وبلا شك فإننا بعد هذه الشاكلة من الأفلام لن يكون من السهل أن نبني قصصا پوليسية بالطريقة المعتادة. وبلا شك سيتعين علينا أن نبذل جهدا أكبر في العمل، ونثابر على تهذيب سيناريوهاتنا، ونستغني عن الصور الجميلة، وحيل الكاميرا، وغير ذلك من البهرجات التقنية التي تقوّض ذلك ’البعد الثالث‘ على الشاشة عن طريق خلق زيف بصري و'التَّهَلْوُد' (بالمعنى السيء للتعبير). لقد شهدنا بالتأكيد ظهور طائفة جديدة من المؤلفين، البيلي وايلدرات، الپرمينغرات، التشاندلرات، الجون هيوستنات John Hustons، الذين يعِدون بترك الحرس القديم والمدرسة القديمة وراءهم، من الجون فوردات، والوايلرات Wylers، بل والكاپرات Capras.

ولكن لنَخْلُص من ذلك إلى أن صناع الأفلام الفرنسيين عليهم أن يطووا خيامهم…

هناك نقطة واحدة، على كل حال، تستحق أن يوضع تحتها خط من أجل صناع أفلامنا: أولوية السيناريو، وحقيقة أن الفيلم هو أولا وأخيرا قصة رصينة جيدة البناء وأصيلة التقديم. قرأت عكس ما قلته الآن تماما من صديقي القديم جورج شارنسول Georges Charensol فيما كتبه عن «كم كان واديَّ أخضر». يبدو أن لدى شارنسول ومراجعين آخرين حنين للأفلام الصامتة وأنهم يحكمون على الأفلام بقدر الزينات المتكلفة التي تعرضها. أخشى أنه لا فائدة ترجى من معارضتهم: فتطور الأفلام بلا هوادة سيحسم قضيتهم – الأفلام التي يصبح إبداعها بشكل متزايد مهمة السيناريو وحيث يمكن للمرء أن يجد اليوم طاقة درامية في لقطة ثابتة أكثر مما في پانوراما مهيبة.

الدليل؟ أفلام مثيرة للإعجاب مثل «كم كان واديَّ أخضر» و«الرسالة» T​he Letter، مثيرة للإعجاب ومملة بعمق. من ناحية، هناك القيمة الإنتاجية بالبنط العريض، والجمال البصري، واللقطات التتبعية الأبوية والملل الذي تقطره الكاميرا بدقة. من الناحية الأخرى، مسرح مصور سينمائيا بكامل بهائه أصبح ممكنا بفضل عدسة خاصة، رقصة باليه لا تتقدم في أي اتجاه، مترجمة بروعة، ونفخت فيها الروح من قوة جبارة، ويتابعها المرء وهو يتثاءب. كلا الفيلمين خالٍ من الحياة، ومن الحقيقة، ومن العمق، ومن السحر، ومن الحيوية، ومن الطاقة الحقيقية – من ذلك ’البعد الثالث‘ الذي أفضله. الترومپلوي فن خداع البصر والمسرح المصور سينمائيا، هاتان الصيغتان المتقادمتان والمتعارضتان، تلتقيان وتجبرانا على أن نؤكد، بأسى، أن السادة الرائعين أمثال جون فورد ووليام وايلر أصبحوا بالفعل قطعا متحفية. إن النظرات الدالة في «لورا» أو «الضمان المزدوج» - يؤسفني أن أقول ذلك، ولكن لابد من قوله - محركة للمشاعر أكثر من التكوينات البليغة عند الأول أو اللمسة الماهرة التي للثاني.

ومهما يكن، اعفوني من قول إن المستقبل مِلْك أفلام الجريمة المروية بضمير المتكلم… 

[ترجمة عن نسخة آلن سيلڤر Alan Silver الإنجليزية]

    إضافة تعليق جديد

    نص عادي

    • لا يسمح بوسوم HTML.
    • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
    • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.