«المواطن كاين»: فيلم غامر

الأديب الأرجنتيني الكبير يراجع فيلما كبيرا لمؤلف سينمائي كبير، ولن ينسى الأخير له ذلك أبدا، في لعبة مرايا ومتاهات وزمن بين مبدع الكلمات ومبدع الصور.

في فيلم «المواطن كاين» Citizen Kane (واسمه التجاري في الأرجنتين «المواطن» El ciudadano) حبكتان على الأقل. الحبكة الأولى لا غاية من ابتذالها سوى أن تستدر التصفيق من المشاهدين التنابلة: مليونير مبهرَج يقتني التماثيل، البساتين، القصور، أحواض السباحة، الألماس، السيارات، المكتبات، الرجال والنساء. ومثل جامعة سابق (تُنسب خواطره عادة إلى الروح القدس)، يكتشف أن هذه الكورنيوكوپيا الفائضة بأشكال وألوان من الخيرات هي بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ: الْكُلُّ بَاطِلٌ. وهكذا، وهو مشرف على الموت، يشتاق إلى شيء واحد وحيد في الدنيا؛ زلاجته المتواضعة التي لعب بها طفلا!

أما الحبكة الثانية فأرقى بمراحل، وتعقد الصلة بين الكوهيليث وذكرى عدميّ آخر؛ فرانتس كافكا. فالقصة الپوليسية الميتافيزيقية إن جاز الوصف موضوعها (وهو نفسي وأُمثولي في آن معا) تحقيق حول باطن النفس البشرية عند إنسان، من خلال أعماله التي صنعها، وقوله الذي قاله، والحيوات التي دمرها. اتُّبع التكنيك نفسه في رواية جوزيف كونراد «الصدفة» Chance (١٩١٤) وفي ذلك الفيلم الجميل «القدرة والمجد» The Power and the Glory (وليام ك. هوارد، ١٩٣٣): تدفق راپسودي من مشاهد منوعة دون تسلسل زمني. فعلى نحو غامر، لا نهائي، يعرض أورسن ويليس شذرات من حياة تشارلز فوستر كاين، ويدعونا إلى دمجها وإعادة تركيب شخصيته.

يزخر الفيلم بأشكال التعدد والتنافر: المشاهد الأولى سجلٌ بالكنوز التي كوّمها كاين؛ بينما في أحد المشاهد الأخيرة امرأة تعيسة، تشقى في بهرجها، تلعب بقِطَع تكوين منظر ضخم على أرضية قصر هو متحف أيضا. وفي النهاية ندرك أن الشذرات لا تخضع لمنطق وحدة خفية: أن تشارلز فوستر كاين المقيت ليس إلا محاكاة، فوضى من المظاهر. (نتيجةٌ لازمة محتملة، استشرفها داڤيد هيوم وإرنست ماخ وابن بلدنا ماسيدونيو فيرنانديز: ما من إنسان يعرف من هو، أي إنسان هو لا أحد). في إحدى قصص تشيسترتون - أظن أنها "رأس القصر" The Head of Caesar - يلاحظ البطل أن لا شيء يبعث على الرعب أكثر من المتاهة التي لا مركز لها. هذا الفيلم هو تلك المتاهة بالضبط.

جميعنا على دراية بأن كل حفل، كل قصر، كل عناء كبير، كل وليمة غداء لكتّاب وصحفيين، كل جوّ من الرفاقية العفوية صادقة المودة، هو في جوهره أمر فظيع. و«المواطن كاين» هو أول فيلم يرينا مثل هذه الأشياء بإدراك لحقيقتها هذه.

إنتاج الفيلم، بشكل عام، يليق بموضوعه الهائل. ويتسم التصوير السينمائي بعمق [مجال] لافت، وهناك لقطات لا تقل مستوياتها الأبعد (على غرار لوحات جماعة العائدين إلى ما قبل رفائيل) دقّة وتفصيلا عن اللقطات المقربة. غير أني أجازف بتخمين أن «المواطن كاين» لن يدوم إلا كما ’دامت‘ بعض أفلام غريفيث أو پودوفكين--أفلام لا تنكَر قيمتها التاريخية لكن أحدا لا يحفل بأن يراها ثانية. إنه فيلم متعملق، متحذلق، مرهق، يعاني من كل ذلك. إنه ليس ذكيا، وإنما عبقري--بالمعنى الأشد حُلْكة وجرمانية لتلك الكلمة السيئة.

[نُشر بعنوان Un film abrumador في مجلة Sur، العدد ٨٣، أغسطس/آب ١٩٤١، وأعيد نشر الترجمة الإنجليزية في طبعات مجمَّعة من نصوص بورخيس غير القصصية، ضم بعضها مراجعات أفلام قصيرة أخرى كتبها. هذه الترجمة العربية عن النسخة الإنجليزية الواردة في مجموعة The Perpetual Race of Achilles & the Tortoise, Penguin, 2010 بعد مطابقتها على الأصل الإسپاني.]

    إضافة تعليق جديد

    نص عادي

    • لا يسمح بوسوم HTML.
    • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
    • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.