«أم غايب»: لعبة الأدوار الاجتماعية والطبقية والسينما وإنستاغرام
التريلر مبشر، مكثف وواعد، يشي بحس وجودي وصوفي، ولكنه أوحى في نفس الوقت بفيلم بدا لي متوقعا، ولذا فحين ذهبت لمشاهدته كنت أنتظر منه شيئا واحدا: أن يخيب ظني.
شاهدتُ تريلر فيلم «أم غايب» في اليوم السابق مباشرة على مشاهدتي الفيلم كاملا ليلة افتتاحه في سينما زاوية مساء الخميس ٥ نوڤمبر ٢٠١٥. التريلر مبشر، مكثف وواعد، يشي بحس وجودي وصوفي، ولكنه أوحى في نفس الوقت بفيلم بدا لي متوقعا، ولذا فحين ذهبت لمشاهدته كنت أنتظر منه شيئا واحدا: أن يخيب ظني.
الدقائق الخمس الأولى
لا أخفي تربصي بعد خمس دقائق من الفيلم، وهي زمن مشهد لسيدات من القرية يُجبن على أسئلة نادين صليب عن الزواج والحب وخلافه. كيف ستقدم صليب شخصيات هؤلاء اللواتي سيثير مجرد ظهورهن على الشاشة حسا طبقيا لدى مشاهِد/ة أعلى طبقيا منهن بالطبع، أولا لبداهة عيشه/ا في المدينة وامتلاكه/ا رفاهية دفع تذكرة دخول فيلم غير ترفيهي، وثانيا لأن السينما البديلة في مصر لها بعد طبقي أصلا باعتبار الشريحة الاجتماعية لصانعيها، ولأسباب كثيرة أخرى.
فاجأتني صليب بمعالجة عذبة وسلسة، استخدمت القرية بجغرافيتها المكونة من جبال تحتضن بيوتا مبنية حول مقابر، لتتكلم عن موضوع آخر عابر للجغرافيا/الطبقة/المرأة. لقد اختارت الحديث عن أوسع وأقدم موضوع وهو الحياة والموت، من خلال حنان، المرأة التي تحاول بلا طائل الإنجاب لأكثر من 12 عاما. كل هذا للوهلة الأولى، ولكن هل كان الفيلم حقا عابرا لهذه التصنيفات أم ...؟
المجتمع يحب الأدوار
وراء ظهور الفيلم للنور ثلاث شابات: نادين، سارة يحيى، منى لطفي. كنت أسأل نفسي هل لو لم أكن أعرف أن الفيلم لمخرجة كنت سأخمن ذلك؟ يدور الفيلم حول التعريف الكلاسيكي لدور المرأة في المجتمع وهو الإنجاب.
في نقاش أعقب العرض، أشار محمد كلفت إلى مقال إيمان مرسال "عن الأمومة والعنف" الذي يحاول خلخلة المفاهيم المحفوظة عن عطاء الأم غير المشروط وغير المعرض للمساءلة، طارحا أن تقديس المجتمع لفكرة الأمومة يدفع الأم للشعور بالذنب لإحساسها بعدم كفاءتها لتوفية متطلبات اللقب المقدس وأول شروطه إنكار ذاتها تماما لصالح المولود.
في رأيي أن لعبة إنكار الذات/القداسة هذه هي من أكبر الأعمدة الاجتماعية للمجتمع المحافظ، أحد تروس عجلة الأدوار الضامنة لاستتباب الوضع كما هو عليه. المرأة لا توجد هكذا بمفردها في الفراغ؛ هي كيان مرتبط إما بوالد أو زوج أو طفل. وجودها ككيان منفصل مهدِّد لتقسيمة الأدوار الاجتماعية الحالية. كيف يمكنك نفي وجود شخص؟ الأمر بسيط: حوّله إلى دور. طيب ماذا لو تمرد على دوره؟ الأمر بسيط: قدّسه. كيف سيثور صاحب الدور المقدس؟
هل تشعرين كامرأة باضطهاد؟ كيف؟! دا "الجنة تحت أقدام الأمهات”... "ست الحبايب يا حبيبة يا أغلى من روحي ودمي”... "أمك ثم أمك ثم أمك"... "الأم مدرسة لو أعددتها”... "يا ماما يا أمّا يا امّاتي”... المجتمع كله يتغنى باسمك--الأم مقدسة. اجري على إيد أمك وبوسها يا ولا! هو أنا عايش إلا برضاكِ يا امّا؟
في النسبة العظمى من الدراما والأفلام المصرية تحضر الأم بوصفها صورة الخير السمحة، التمثيل المطلق للصفة التي يفضل المصريون وَسْم أنفسهم بها وهي الطيبة. يُنتزع منها الوجود الإنساني الذي يتغذى على التجربة والاقتحام والتراجع واختبار الأشياء وتقييمها وإعادة تقييمها، لتتحول إلى سطح أملس ناعم منزوع الفردانية، محاوِلة قدر الإمكان الالتزام بالتصور العام لدورها المحدد من قِبل التراث الاجتماعي/التليفزيون/أمها/المستفيدين من الوضع القائم كالذكور/الأبناء/الزوج، ثم تكتمل الدائرة بتماهيها مع الدور وتمثُّلها للمخيلة الجماعية عن صورتها المفترضة، إلى أن يحين الوقت للمطالبة بمستحقاتها عن تمديد الوضع القائم، المتمثلة في إخضاع الأبناء لنفس الدائرة المريضة الخاصة بتبني لعبة الأدوار الاجتماعية، لتنتج بنات صالحات يكرسن حياتهن للالتصاق بكائن آخر يعرّفن أنفسهن به وهو الزوج، يليه كائن آخر مكمل للحلقة وهو الطفل. كما تنتج ذكورا صالحين يتخذون مواقعهم في المجتمع كحراس لهذه الأدوار الاجتماعية تحت مسميات كبيرة تبسط سطوتها على كل شيء في مجتمع مقهور بدوره.
التقديس هو الوجه الآخر للنفي.
(بالصدفة وأنا أكتب هذه المراجعة، وقعت على نص كتبته منذ فترة طويلة بعنوان "لماذا أكره محمود درويش؟" هذه فقرة منه:"الأَسطَرة التي يمارسها شاعر مثل محمود درويش على صورة المرأة تشبه الأكاذيب التنويمية التي تمارسها كل المقدسات لتسويغ قداستها [هي]. المرأة كصبوة حلم، أفق تأملي، مفهوم غير ممسوك لا يدخل الحمام ولا يعمل پي پي، مفهوم مائع ومخدّر لا يُنتظر منه الفعل، عليه أن يظل هكذا مجردا من إدراك نفسه ومن التعاطي مع العالم إلا في حدود الدور المرسوم له. هذا المفهوم يقترب من المفهوم الديني لفكرة المرأة: التعظيم هو الوجه الآخر للنفي. أنت تنفي المرأة عن طريق تعظيمها. المنفي والمعظّم ليسا مدعوّين إلى مشاركتنا العالم، هما فقط يجلسان هناك مثل كل المعاني الكبيرة المجردة التي نضبب بها على الحقيقة.”)
الوجودية تحب نفسها
نرجع للفيلم. حنان هي ألتر إيغو لنادين صليب--ولكثير من السيدات ممن يعشن هنا في هذه البقعة المنكوبة. وجودها مرتبط بكائن آخر غيرها. طيب ولو غاب هذا الكائن، كيف يمكنها/يمكنهن الحضور؟
الطفل لا يأتي. يعلّق الكائن الغائب وجودها فتجري ووراءها صليب لتستطلعا هذا الغياب. تطارده حنان بطرق شتى. تلجأ إلى العلم والطب وتلجأ إلى الداية والأسطورة. تراجع الأطباء ثم تتدحرج على حصى المقابر لاستحضار روحه. من أنا بغير طفلي؟ هل لي وجود بدونه؟ حنان تفتش على نفسها عن طريق تحضير روح الطفل، ونادين تفتش على نفسها من خلال حنان.
بغياب الكائن الذي نربط وجودنا بوجوده تطفو الأسئلة الوجودية على السطح. نضطر إلى الارتداد إلى شيء قديم منسي داخلنا يدعى أنا. من أنا؟ لماذا أوجد هنا؟ ما هي السعادة؟ ما هو الحب؟ ما هي الحياة؟ لذا نعايش من خلال الفيلم وجودا متوترا لِذات متشرنقة. هنا تكمن نقاط قوة الفيلم ومركزيته.
تساؤلات حنان الوجودية ضربت في الصميم مشاهِدات الفيلم. في لحظة منفلتة من السياق تقول حنان "أنا دلوقتي حامل، بس مش عارفة أنا فرحانة والا زعلانة." انفعلت بنت ورائي وقالت لصديقها "دي أنا! دي كإنها بتتكلم عني!"
الأنثى تحب الشعر
شاعرية ونعومة مفهومي الأم/الأنثى في المخيلة الكلاسيكية الجمعية جعلتا اختيار صليب للمقاربة الشاعرية أكثر اقترابا من كلاسيكية مفاهيم الأنوثة والأمومة التي تفرّخ معاني الرقة. ليست عندي مشكلة مع هذا كاختيار فني ولكن التزام الأعمال بالمفاهيم المتوقعة يوهن نفوذها.
فإخلاص الفيلم لشاعرية ذات أفق شحيح حرمه من المضي بعيدا ليجرب صيغا أكثر اقتحاما. النعومة في معالجة موضوع ناعم قلصت من مساحات المفاجأة. كمشاهدة، أمَلتُ في مشاكسة وتخريب ولعب مع المفاهيم أكثر من ذلك. قبض الفيلم على الواقع بقبضة مسترخية، مصنفرا خشونة الموضوع ليخلق واقعا حريريا مستكينا ومغللا بالهالات الضبابية التي تغطي مساحة الفيلم العامة، مراوغا فكرته ومفضلا عدم الدخول مباشرة إلى قلب الأشياء.
الشعر يحب المجاز
لعبت المجازات الشعرية في الفيلم دورا ترميزيا يُخدّم على تحويل قضية الإنجاب إلى استعارة عن الحياة، ولكن جماليات المجاز البصرية في الفيلم كانت أقرب إلى جماليات تمبلر ، بالإضافة لمرجعية أبرز مفردة من قاموس تاركوڤسكي في مشاهد تصوير المياه كرمز لموطىء تخلُّق الحياة.
زمان... كنت أحب حصة الرسم بالرغم من عدم امتلاكي الموهبة. الأمر بسيط، فالموضوعات المطلوب التعبير عنها كانت بسيطة وعامة: الوطن، الربيع، الصداقة. وبدورها كانت المفردات محفوظة ومكررة: حقل، شجرة، وردة، سحابة، شمس، النيل طبعا، عَلَم، إلخ. بقليل من التدريب، تمكنت من رسم هذه المفردات بمهارة. بعد سنين طويلة، وبسبب جلوسي على مكتب طوال النهار في العمل، أسرح بالشخبطة على الورق، لاحظت مواظبتي علي رسم أشكال معينة وبنفس الكيفية وكيف تتشابه رزمة الورق التي أمزقها كل يوم قبل المغادرة مع مثيلتها من اليوم السابق.
لقد دجنت وسجنت عقلي تعبيريا. كل انفعال له تعبير معين. الحزن له هذه الرسمة، النرفزة لها هذه، التأمل له هذا. الأمر بسيط فعلا. لقد حددت حقل مجازاتي.
وعلى ذكر الحقول والمجازات، منذ مدة أخذتُ لقطة شاشة من فيديو كليب لللفنان الكبير فضل شاكر، يجري فيه وراء مغنية أخرى في حقل زراعي طوال مدة الدويتو، كأنهما يلعبان يعني. احتفظت باللقطة لأن هناك جملة ملتصقة برأسي من رواية لكونديرا يتكلم فيها عن سخافة هذا المشهد (رجل يجري وراء امرأة في حديقة) الذي تُطعّم به أفلام كثيرة للتعبير عن نشوة الحب الأولى. المشهد طبعا له إحالاته الدلالية الأسطورية اللطيفة: آدم وحواء يلعبان في الفردوس، ولكن... كفاية.
كيف نعبر عن السعادة والحب والحياة؟ ما هي المجازات التي نستخدمها؟ الاحتراس واجب. فاعتيادنا لغة معينة من الجمال يحولنا إلى مستهلكي جمال نرفل في مملكة الألفة الحزينة.
وهذا يقودني إلى أولى مشاكلي مع الفيلم وهي محدودية حقل المجازات الموظف للتعبير عن الحياة/ الموت/الخَلق. أطفال يمرحون، عنكبوت ينسج خيوطه، عملية تنقية حبوب الغلة، حمامة حاطة على شباك، إلخ. ما يغفر لهذه المحدودية هو الحساسية العالية التي التُقطت هذه المجازات بها، فحمتها من أن تصبح فيلما وثائقيا آخر لقناة الجزيرة يتبع إرشادات كتيب كيف يمكنك صنع فيلم وثائقي ناجح.
الولد المؤدب يحب التلصص
أفلحت المقاربة الوجودية الشاعرية في كسر التناول البورجوازي التقليدي، ما حمى الفيلم من أن يتحول إلى پورنو فقر استهلاكي آخر. ولكن المثير حقا في مناقشة الفيلم هو وعي واحتفاء الجمهور (اللي بيروح زاوية) بهذه النقطة لتسجيل نقاط أخلاقية، وهو هوى منتشر منذ اندلاع الأحداث في 2011. علّق الكثيرون على خلو الفيلم من "الفوقية" ونزاهته في إظهار "الفقراء" بشكل "كويس" وأنه لم يتعالَ عليهم. المثير أكثر أنه برغم محاولة الفيلم تحييد هذه الزاوية، إلا أن فضول الجمهور أكله، آخذا في محاصرة طاقم الفيلم بأسئلة عن "هي فين القرية دي؟ إزاي اتعاملتِ مع الناس دول وخليتيهم مرتاحين؟" إلخ إلخ.
هذا الاحتفاء يمثل جانبا من مزاج عام لدى صانعي السينما البديلة (بغض النظر عن التسمية) لتصوير ونصرة الطبقات الدنيا، وهو المزاج المرتبط بتريند الأكتيڤزم في الفن والفن في الأكتيڤزم الذي يلاقي هوى عالميا هذه الأيام، وهو الهوى الذي يحمل صبغة تطهرية، ويؤكد على المسافة الطبقية بين صناع/مشاهدي هذا النوع من السينما/الفن وبين الموضوع المصوَّر، ولا يمكنك أن تخطئ مشاعر الانتصار البورجوازي اللذيذ في أعين المشاهدين.
تقول سوزان سونتاغ أن ملل الطبقة الوسطى من نفسها يغذي أحيانا رغباتها التسكعية. يتأبط الواحد كاميرته ويترك قلعته الحصينة وينزل الشارع سائحا وباحثا عن الإثارة في الطبقات الأخرى.
لو كنت في القاهرة فلديك مشكلة واحدة صغيرة: الطبقة العليا محمية في كومپاونداتها وڤيللاتها ونواديها الخاصة ولن تسمح للمتطفلين أمثالك بتصويرها إلا في أجواء احتفالية نموذجية ومثالية. ليس أمامك إلا الطبقة الفقيرة المرمية في الشارع؛ إنها طبقة متاحة سهلة الاقتحام. تغذي هذه النوعية من الأفلام تلك المتعة التبصصية مُشبِعة فضول الطبقة المتوسطة، الخاملة المخنوقة بإحساس الحصار، نحو الطبقات الأكثر حيوية.
أما انتصارها البورجوازي فيتشكل عندما تفلح في تحويل الطبقة الدنيا إلى مفهوم مغلق على نفسه وهو في هذه الحالة مفهوم مرتبط بـ"الخير" و"الأصالة". فكما تؤدي الأم دورا مقدسا، على الطبقة الفقيرة أن تلعب دورها هي الأخرى جيدا، ولا تحيد عنه، لأن ذلك ركيزة أساسية لضمان استتباب الأمن وثبات الوضع كما هو عليه. عليها أن تلتزم بتمثيلها لهذه المفاهيم، حتى نستطيع نحن أيضا القيام بدورنا كأبطال خارقين منقذين للمجتمع وحاملي لواءات العدالة.
الخوف يحب المسافة
«أم غايب» فيلم يحتفي بالمسافة. في فيلمها القصير الأول («إلى أمي») تقول نادين صليب "أنا باحب أراقب الحاجات من بعيد. باحب أتفرج عليها." أخذ الفيلم مسافته بالمقاربة الشاعرية والمجاز والظَّرف الطبقي لموضوعه. والمسافة صنعت الأسطورة التي تجعلنا نتواصل مع بدائية الوجود الإنساني، وهي أيضا مهربنا من واقع قبيح نفضل التعامل معه من خلال فلاتر إنستاغرام.
إنه فيلم مثير للنقاش لأنه مثير للتأمل. جدية صناعه وإخلاصهم جعلته أحد تلك الأفلام التي تعطي دفعة لولادة متعسرة لسينما مصرية بديلة حقيقية طالت مدة مخاضها أكثر من اللازم، وصار واجبا مناقشتها بجدية، يِمكن ربنا ينتعها بالسلامة.
إضافة تعليق جديد