08 حزيران/يونيو 2016
رسالة ترسو
تعني "ترسو" بالعامية المصرية سينما الدرجة الثالثة وأصل الكلمة إيطالي (terzo)؛ هذه السينمات، التي أمّها جمهور من الطبقة العاملة في المدن وعلى رأسها القاهرة والإسكندرية، والتي اقترن اسمها أيضا بصناعة سينما محلية موجهة إلى مشاهديها من أولاد البلد من المولعين بالسينما، 'السينيفيلز' على طريقتهم. وشيئا فشيئا نحو مطلع الألفية ومع صعود المولات أصبح الذهاب إلى السينما رفاهية منحصرة في الطبقة المتوسطة المتآكلة والطلبة والمثقفين والأسر النظيفة. ولبضع سنوات استمر القليل الباقي غير المهجور من هذه السينمات القديمة - سيئة السمعة أحيانا والمنتشرة كالخرائب في البلاد - في عرض قائمة محفوظة من "أقوى أفلام الإثارة والعنف" كما تقول اللافتة المرفوعة بلا مواربة على أطلال إحداها في ميدان الجيزة. أما الجمهور نفسه فقد استعاض بالفرجة المنزلية بعد فاصل من التجمع في المقاهي وغيرها حول أجهزة الڤيديو والفضائيات.
"وماذا في الاسم؟" إننا نحتفي بما نراه شعبيا واجتماعيا في الرقم ٣. الرقم الذي يبدأ عنده، للمصادفة، الجمع في اللغة العربية. باسم الجماهير ارتُكبت أشياء. أصبحت مقولة "الجمهور عايز كدا" دين المنتجين وملعب تجاربهم السلعية. وجيشت الدولة مؤسساتها لضخ الفن 'الجماهيري'، بينما توزعت النخب الثقافية بين ملاحقة الجماهير عبر طرق أعقد والانغلاق على نفسها وفنها كجمهور نقيض لجمهور الترسو، الذي رأته مبتذلا متخلفا منساقا، وفي أفضل الأحوال مغيبا. ومع الوقت، ترسخت الانقسامات الحادة التي جلبتها تناقضات الفن والتجارة والسياسة، بين الفيلم العربي (المصري دائما) والأجنبي ('العالمي'، الأمريكي دائما)، بين 'الزمن الجميل' والحاضر 'الهابط'، بين المهرجان وشباك التذاكر. وبالرغم من كل إمكانات العولمة ضاع التنوع لصالح ديموقراطية سوق زائفة تخيرنا بين سلع لا تكاد تخرج عن مواصفات محددة، تضيع فيها فردية الصانع والمتلقي معا، ويظل تحالف قوى الرقابة والسوق، جنبا إلى جنب مع ابتذال النقد الصحفي السائد واغتراب بديله التخصصي، بالمرصاد لكل ما يخرج عن الحدود المقبولة. والنتيجة؟ فن وأثر محدودان أكثر من اللازم، لكنهما واعدان بالمزيد إلى حد الغيظ.
وإذا كانت السينما بالمولد فنا جماهيريا بامتياز وبالتالي سياسيا أي ذا إمكانات ثورية كما شرح بنيامين، لكنها تخضع لشروط صناعة الثقافة المبتسرة وغير 'الراقية' لأغراض التطويع كما رأى أدورنو، فقد نجح نقاد مجلة «كراسات السينما»، وصناع أفلام الموجة الجديدة (الفنية) فيما بعد، في تفجير هذه الجدلية باكتشافهم لفن عظيم وعميق وصادق في أعمال تجارية أمريكية.
وفي مصر، وفي هذه اللحظة العربية (ما بعد) الثورية حيث يستمر الإنتاج التجاري المحدود بدوره وينشط على هامشه صناع أفلام جدد يستكشفون، يُطرح من جديد السؤال الدائم: ما مشكلة السينما المصرية؟ أهو التجريف الذي تعرض له المجتمع في عقود بعد تنوع ثقافي ربما تشهد عليه كلمة "ترسو" نفسها؟ اختراق رجال الأعمال الجدد للمجال وفرض أجندتهم؟ انسحاب الدولة التي رأى فيها البعض أبا ضروريا بالرغم من المشاكل الأبوية؟ استسلام المثقفين ومواءماتهم أو في أفضل الأحوال انعزالهم؟ محدودية المبدعين؟ أزمة النقاد؟ وضع المجتمع المتردي اقتصاديا وحضاريا بين الأمم؟ المد الإسلامي؟ في كل هذه الاحتمالات، ولعل المشكلة في النهاية نتاج لمجموعها، نرى عاملا حاضرا بقوة: الاستعمار وما بعده. وفي لحظة تاريخية أسبق خرج ملهمونا في حركة السينما الثالثة، التي تكرم «ترسو» أيضا اسمها، لمناصرة العالم الثالث بسينما جديدة خارج القطبين المهيمنين--ليس بلغة الحرب الباردة.
إن إصدارا نقديا الآن فعل لا يخلو من الخرق. يشتد الحديث عن موت الناقد في ذروة بعد حداثية لا يحتاج فيها أحد إلى نقاد مع الإنترنت حيث يراجع الكل الأفلام والألبومات والكتب ويجدون قيمتها مسألة أذواق مفتوحة على الاحتمالات اللانهائية ولا يعتمد نظام الأفضل مبيعا على ترشيحات الخبراء.
تحاول «ترسو» أن تقدم مساهمة في التقدم خطوات في سبيل الإجابة على هذه الأسئلة--أحيانا عن طريق مَشكَلتها أكثر، من خلال توفير مساحة لقدح الأذهان حول فنون الصور المتحركة، وترجمة جماعية المشاهدة إلى حوار يتشارك فيه المولعون بالسينما مع المهتمين بتوليفها في حقول أخرى تلقّيهم للفن ومقاربتهم للحياة كما يعالجها الفن، وكذلك ترجمة الحراك السينمائي العالي حاليا إلى محتوى يخدم التراكم--فكم من النقاشات الجيدة والمهمة حول الأفلام لا تغادر حدود غرفتها في نوادي السينما والفعاليات المتنوعة المتزايدة. وفي سياق ذلك، سنعيد اكتشاف سينمانا وسينماءات العالم، والعالم من خلالها.
وتهدف «ترسو» إلى تعميق النقد العربي للأفلام وصناعة السينما والكتابة عن الصور المتحركة والصورة عموما من فوتوغرافيا وڤيديو وتليڤزيون وفن تشكيلي في تقاطعاتها مع السينما، وتحليل نظرتنا إلى الجمال والظواهر الحسية في ذروة عصر الصورة وتداخل الوسائط بقدر تحليل أفكارنا ومشاعرنا، وإثراء المحتوى العربي الإلكتروني سواء الأصلي أو المترجم أو المعاد إنتاجه لنشر وتطوير معرفة تفيد الصناع والدارسين والباحثين والفاعلين والجمهور العام. ولا يخفى ضعف المشهد النقدي العربي بالرغم من فيض غزير نسبيا من الإصدارات والكتب، إذ تكاد تنعدم مثلا دورية سينمائية عربية جادة ومقروءة من المحيط إلى الخليج. بينما يبقى التراث الضخم من دراسات السينما التي توالت من الجامعات الغربية لحوالي ٤ عقود وراء حواجز الأثمان الباهظة كحال كل المقالات والدوريات الأكاديمية. فثمرة الحريات ومزايا التقدم خطرة تلزم حراستها.
تشجع «ترسو» أيضا انتقال الكتابة في السينما إلى منطقة أرحب تتخلص من النقد بمعناه السلبي (الجاهز والمدرب جيدا والمثقل بالنظريات) لتصل إلى نقد تفاعلي من داخل العمل، دون إنكار للذات وانحيازاتها على غرار أساطير التوجه الأنثروپولوجي القديمة.
كما تحاول «ترسو» قدر الإمكان التخلص من ناحية من الثنائية العتيدة بين الترفيه المقترن بهوليودات العالم والفن المقترن بأوروپا دون أن تقع في أسر منطقة ثالثة تشوهت لأغراض الدعاية والتوجيه؛ فكل هذه سينما، وما علينا هو استعادتها بمعانيها المختلفة من التشويه، ترفيها وفنا ومقاومة.
نريد مقاربة السينما بحميمية وخصوصية وشغف وحب للصنعة على نحو يسير جنبا إلى جنب مع الاهتمام البحثي والتبصر الفلسفي.
تطمح «ترسو» إلى أن تكون بؤرة معرفية لجيل صناع وفناني السينما المسماة بالمستقلة والبديلة، والمنخرطين في دراسات الأفلام ممن يريدون الخروج من أَسْر النظريات الغربية ومعالجة إنتاجنا بنظرة أصيلة عالمية وحداثية بمعنى أوسع لا مكان فيه لمركزية، ولجمهور السينما من جيل الإنترنت والواعد بما هو أكثر من مجرد إعطاء عدد من النجمات لفيلم ما على موقع أو تسجيل الإعجاب به.